الرئيس مبارك... صفحات في كتاب مصر الكبير

الأربعاء 26 فبراير 2020 3:36 م

«ليس من السهل حكم مصر».. آخر ما قاله الملك فاروق لمحمد نجيب الذي تولى رئاسة البلاد بعد إسقاط النظام الملكي وهو يودعه على ظهر الباخرة المحروسة متوجهاً إلى منفاه في نابولي بإيطاليا.
ظلَّت تلك العبارة ترنُّ في أذن اللواء محمد نجيب وهو يصارع أمواج الحكم في مجلس قيادة الثورة. وفي نهاية المطاف، ألقى به أولاده الضباط الصغار -كما كان يسميهم- في الإقامة الجبرية لعشرات السنين، يعاني العزلة والعوز والمرض. بدايات كل حاكم لمصر رافقتها صرخات مسرح، والنهايات أيضاً كانت على مسرح تنوعت فيه ألوان ستائر النهاية.
لم يستطع الرئيس جمال عبد الناصر أن يقبض على حبل الحكم بسهولة؛ خاض معارك صامته وصاخبة مع الرفاق الذين تحرك معهم للاستيلاء على السلطة، ابتداء من الضابط يوسف صديق الذي أدى دوراً أساسياً ليلة 23 يوليو (تموز)، ومن بعده خالد محي الدين الذي نفاه عبد الناصر إلى سويسرا. واستمرت لعبة الكراسي مع بقية أعضاء مجلس قيادة الثورة، وانتهت بخروج توأمه المشير عبد الحكيم عامر من المشهد السياسي بضربة غامضة، بعد هزيمة يونيو (حزيران).
خاض جمال عبد الناصر سلسلة من المعارك الداخلية والإقليمية والدولية، انتهت بانتصارات كبيرة رفعت اسمه وصوره على كثير من الجدران، وارتسمت في الرؤوس والقلوب. لكن ضربات الانكسار كانت غائرة في القلب، وانسابت في امتداد الجسد. من تأميم قناة السويس والوحدة مع سوريا وبناء السد العالي وحركة عدم الانحياز إلى معارك لم توفر قوة جسده ومنعة الوطن. معركة اليمن وانفصال الوحدة مع سوريا، ومن بعدها الضربة الكبرى في هزيمة يونيو (حزيران)، كانت النهاية فوق مسرح تعلوه قذائف معارك حرب الاستنزاف مع إسرائيل، ليفارق الحياة فجأة وهو في الثانية والخمسين من عمره. «ليس من السهل حكم مصر».. هل طافت عبارة الملك فاروق هذه على اللحظات الأخيرة من عمر عبد الناصر؟
تولى نائبه أنور السادات الرئاسة من بعده والبلاد في خضم نفير صامت؛ الشباب يطالب بحرب التحرير والتغيير، وثمة قوى متنفذه في كل مفاصل الدولة، تكونت في معمل الزعيم القائد جمال عبد الناصر، وأمامه عدو يحتل الأرض، وقناة السويس مغلقة، والاتحاد السوفياتي الداعم الأكبر لمصر يريد ما يريد. لم يكن من السهل على رجل بقي شبه مغمور في زحمة تدافع أعضاء مجلس قيادة الثورة لسنوات طويلة أن يملأ ما تركه الزعيم العملاق عبد الناصر. ومنذ جلوسه على كرسي الرئاسة، بدأت معركة ورقة القرار وقلمه. أراد رجال عبد الناصر أن يستولوا على معمل القرار، وأن يكون السادات رئيساً شرفياً.
وجد السادات نفسه أمام معركة ذات رؤوس ثلاثة: شباب غاضب يستعجل معركة الكرامة والتحرير؛ مجموعة تتحكم في مفاصل الدولة وتحكمها، ولا ترى فيه القائد الذي يستحق الولاء والطاعة؛ عدو يحتل سيناء ويغلق قناة السويس.
وسوى الرومِ خلفَ ظَهرِك رُومٌ
فعلَى أي جانبيك تميلُ
كانت وصفة المتنبي الشعرية تشخص الوضع الداخلي والخارجي للرجل الذي اعتلى كرسي حكم مصر بعد عبد الناصر، الذي خرج المصريون يأمرونه بالبقاء على هرم القيادة، بعد أن أعلن قراره بالاستقالة إثر الهزيمة. مرحلة من سباق الحواجز أمام أنور السادات، اخترع لها رياضة سحرية في الركض والقفز؛ بضربة واحدة شبه سحرية قبض على من سماهم مراكز القوى، وأودعهم السجون. كانت تلك معركة العمر الحاسمة بالنسبة له التي مكنته من أن يكون فعلاً رئيساً حقيقياً لمصر. بعدها، بدأ يعد خرائط المصير الذي ينتظر مصر وينتظره. بعد أن تخلَّص من مراكز القوى الناصرية، أراد أن يفعّل تياراً سياسياً يكون أداته في الشارع المصري، فأعاد الحياة للتيار الإسلامي. اتخذ قرار المعركة مع إسرائيل، ولكن على طريقته هو: طرد الخبراء السوفيات، وبدأ يرفع صوته بالحرب، ويطلق الإنذار والوعيد، ثم يراوغ ويؤجل، إلى أن قام بالهجوم على الجيش الإسرائيلي في أكتوبر (تشرين الأول) 1973. حقق الجيش المصري المفاجأة، واجتاز قناة السويس، وألحق خسائر بالإسرائيليين.
خاض معركة سياسية انتهت باتفاقية سلام مع إسرائيل، وانتهج سياسة اقتصادية عرفت بالانفتاح، وشرع في علاقة خاصة مع أميركا. وهو يحتفل بذكرى معركته التي يعدها إنجاز عمره، فقد استرد فيها ما أضاعه الزعيم عبد الناصر، الذي بَقِي اسمه وظله يطوف داخل مصر وخارجها؛ وهو يحتفل بيومه التاريخي، كان يومه الأخير مقتولاً على منصة المجد بيد الذراع التي أراد أن تكون أداته الفكرية والسياسية! ترى هل طافت أمام ناظريه مقولة الملك فاروق: «ليس من السهل حكم مصر»؟
تولى الرئاسة بعد مقتله نائبه حسني مبارك الذي كان قائداً للقوات الجوية في حرب أكتوبر (تشرين الأول)، ولم يحلم يوماً بأن يكون رئيساً لمصر. فعندما استدعاه الرئيس السادات ليعينه نائباً له، اعتقد الفريق حسني مبارك قائد القوات الجوية أن الرئيس السادات سيعينه رئيساً لشركة مصر للطيران، وكان ذلك أقصى طموحه.
قضى مبارك أكثر من ست سنوات نائباً للرئيس السادات، وتولى كثيراً من الملفات السياسية الداخلية والخارجية، وكذلك الأمنية، وتابع تفاصيل العمل اليومي لرئاسة الجمهورية. فالسادات كان لا يحب الانغماس في التفاصيل، مما ساعد في تأهيل حسني مبارك لقيادة البلاد. شخصية الطيار -كما يقولون- ميالة إلى الحسابات الدقيقة والسريعة، فأبسط الأخطاء تعني النهاية، والصبر والتحمل شرطان أساسيان للنجاح في الدفاع والهجوم.
جاء مبارك للرئاسة وعلاقات مصر مع أغلب الدول العربية مقطوعة، ومقر الجامعة العربية خارج القاهرة، ومسيرة السلام مع إسرائيل لم تكتمل بعد، وقضية طابا أمام محكمة العدل الدولية، وأحوال مصر الاقتصادية غير مستقرة، بالإضافة إلى التحديات الأمنية الداخلية. تساءل كثير من السياسيين المصريين والأجانب عن مدى قدرة الرئيس مبارك على قيادة مصر بقدرات السادات المخضرم الداهية الكبير نفسها، لكنَّه أثبت مقدرة كبيرة في القيادة.
مبارك بقي على كرسي الحكم مدة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث، ونجح في نسج علاقات عربية ودولية واسعة، ولم يتردد في ابتكار منهج جديد للتعامل مع الآخر في الداخل بمرونة محسوبة، وإن لم يلغِ العصا بشكل كامل. الشيخوخة تصيب الأنظمة مثلما تطال الأجسام؛ موضوع توريث ابنه جمال خلق بدايات غضب في الشارع المصري، وهمساً يرتفع في صفوف قادة الجيش، وبدأت المعارضة تتخذ أشكالاً وتحركات ووجهت بضربات عنيفة. في يناير (كانون الثاني) 2011، اندفعت الجموع في الميادين، وانحاز لها الجيش، وبدأ ستار النهاية بلونه الأحمر الصاخب، وأعلن مبارك تخليه عن السلطة، وانتقل من جلسة محكمة إلى أخرى وهو على سرير متحرك. نعم، كما قال الملك فاروق «ليس من السهل حكم مصر».
رحل الرئيس مبارك الذي حكم مصر، وكتب صفحات في سفرها، رغم مقولة الملك فاروق.

التعليقات