وكأن الشرق الأوسط يحتاج أزمات إضافية تضاف إلى ما لديه من أزمات، أو حروباً جديدة تضاف إلى حروبه السابقة والحالية! ومع ذلك فإن المنطقة كلها دخلت إلى حافة الهاوية، عندما قامت الولايات المتحدة باغتيال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، والمقرب إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، والمشرف على العمليات العسكرية والمخابراتية والسياسية، لتوابع إيران في المنطقة العربية؛ ومعه أبو مهدي المهندس، رئيس كتائب «حزب الله» العراقية، ونائب رئيس قوات «الحشد الشعبي» الشيعية العراقية.
كان ذلك مع سوابقه بين الولايات المتحدة وإيران منذ انطلاق الثورة الإيرانية عام 1979، وأكثر من ذلك، بعد إعلان الرئيس دونالد ترمب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، الذي ترتب عليه فرض عقوبات قاسية، للضغط الاقتصادي على إيران، دون قدرة هذه الأخيرة على الالتفاف حولها من خلال أطراف ثالثة.
وما بين الانسحاب والاغتيال دخلت أميركا وإيران حلبة من الصراع والضغوط، واستخدام القوة العسكرية والقدرات الاقتصادية، وكثير من التهديد والوعيد. الأزمة وصلت إلى قمتها بعد واقعة الاغتيال، عندما جرى تشييع جنازة قاسم سليماني في إيران، التي شهدها مئات الألوف من البشر، وبدا أن ضغوطاً هائلة سوف تدفع النظام الإيراني في اتجاه أعمال انتقامية واسعة النطاق، تشمل الأميركيين العسكريين والمدنيين العاملين في المنطقة، وكذلك حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وحتى الداخل الأميركي ذاته لم يسلم من توقع وقوع أعمال إرهابية.
رد الفعل الأميركي كان متوقعاً، من تصريحات الرئيس دونالد ترمب بأن هناك 52 هدفاً إيرانياً سوف تضرب إذا ما تم المساس بالأميركيين؛ ولكي يكون للتهديد مصداقية، فإن سرباً من قاذفات «بي – 52» تم نقله من قاعدة «باركسديل» في ولاية أريزونا الأميركية إلى قاعدة «دييغو غارسيا» في المحيط الهندي بالقرب من إيران. وفي الوقت نفسه، أعلنت واشنطن عن عزمها نقل 5000 جندي أميركي إضافي إلى الإقليم، وجرى إرسال 3000 منهم بالفعل، و200 من القوات الخاصة، بحيث بلغ إجمالي القوات الأميركية في الشرق الأوسط 80 ألفاً.
وبينما الحال وصلت هكذا إلى حافة الهاوية في مشرق العالم العربي، فإن تركيا كانت بدورها مولدة لأزمة أخرى في مغربه، عندما وقَّعت أنقرة مع حكومة السراج في غرب ليبيا الاتفاق البحري والأمني الذي يتضمن احتمالات نشر قوات عسكرية لها قدرات عملياتية، تساعد على وقف قوات الجيش الوطني الليبي، مما يفتح الأبواب لوجود تهديد مباشر لمصر، سواء بالتورط في مساعدة الجيش الوطني الليبي، أو تهديد الحدود المصرية مباشرة بقوات تركية، أو استخدام تنظيمات إرهابية متعددة. وبلغت الأزمة ذروتها عندما قام البرلمان التركي بالتصديق على الاتفاق مع طرابلس، وأعلنت الرئاسة التركية عن نيتها إرسال «الجيش التركي» إلى ليبيا. وهكذا وصلت الأزمتان إلى حافة هاوية الحرب بتأثير مضاعف.
وبينما الأطراف المباشرة تحشد حشودها، وتعبئ ما تستطيع من موارد، فإن المراقبين والمحللين وصلوا إلى أن احتمالات الحرب كبيرة. فسواء كان الأمر في الولايات المتحدة أو إيران أو تركيا أو طرفي الحرب في ليبيا، أو الأطراف المجاورة لكل هؤلاء، فإن الأزمة باتت مصيرية. وسواء كانت الأزمة الأولى في الخليج بكل جروحها الأخيرة، من هجمات إيرانية وحوثية على الدول العربية في الخليج؛ أو الثانية في مصر؛ حيث زادت احتمالات قرب قوات عسكرية تركية من الحدود المصرية والمصالح المصرية في شرق البحر المتوسط، فإن القلق في المنطقة كلها بات غالباً.
وزاد على الحشد والتعبئة أن شبكات التواصل الاجتماعي لم تترك طريقاً إلى الحرب إلا وطرقتها، وأضافت لها احتمالات إضافية لنشوب الحرب العالمية الثالثة!
ولكن المنطقة التي اكتوت بنار الخلل الناجم عما سمي «الربيع العربي»، كان فيها ما يكفي من «الرؤوس الباردة» التي تمرست على التعامل مع مواقف لو تركت لحالها لأدت إلى نتائج كارثية. وكما هي العادة، كان التضامن بين السعودية ومصر والإمارات كبيراً، وفيه من الفكر الاستراتيجي ما يكفي للسعي من أجل تكوين تكتل دبلوماسي وسياسي يقاوم موجات التصعيد، مكون من دول شاركت في الاتفاق النووي الإيراني (الصين وروسيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا) يعمل على إشاعة فكر وقف التصعيد وتلافي الحرب.
في الوقت نفسه، فإن الأطراف المباشرة عندما باتت في مواجهة الكارثة مباشرة فإن الثمن الهائل للحرب بدا لا يمكن تحمله. إيران كانت واقعة منذ وقت طويل تحت العقوبات الاقتصادية، وواجهت قبل وقت ليس ببعيد نوعاً من «الحراك» السياسي الذي رتب مواجهة ما بين سلطة المرشد العام والشعب الإيراني. ورغم المظاهر الرافضة للحقيقة، فإن إيران كانت تعلم أن الحراكين اللبناني والعراقي يقومان على رفض إيران وأتباعها في كلا البلدين.
الولايات المتحدة من ناحيتها كانت لديها الانتخابات الأميركية، وفي الأول والآخر فإن تهديدات ترمب تستهدف دائماً البحث عن «صفقة»؛ وإذا كان هو الشخص الذي يرفض حروب أميركا التي ليست لها نهاية، فربما كان التفكير في النهاية هو ألا يبدأ حرباً من هذا النوع مرة أخرى.
تركيا كان مفتاحها في يد روسيا، وهي التي كانت لها علاقات مع إيران أيضاً تكفي للعب دور. أولاً لأن موسكو متداخلة بشدة مع تركيا في المنطقة «الآمنة» في سوريا، وفي مفاوضات آستانة مع إيران أيضاً، والخاصة بتسوية الأزمة السورية، وهي مصدر للسلاح لتركيا منافسة للولايات المتحدة. وهي ثانياً كانت لها مصالح كبيرة مع ليبيا إبان حكم القذافي، وهي الآن ذات علاقات وثيقة مع المشير حفتر والجيش الوطني الليبي؛ وهي تتطلع لكي تكون لها المكانة ذاتها مع النظام الذي سوف يستقر في ليبيا. وثالثاً أن روسيا لها علاقات وثيقة مع إيران، سواء في مفاوضات آستانة أو على الساحة السورية، ومؤخراً فإنها مع الصين وإيران قامت بمناورات عسكرية بحرية في الخليج. ورابعاً قامت روسيا بدور دبلوماسي في الأزمة التركية، من خلال لقاء إردوغان مع بوتين في 8 يناير (كانون الثاني) الجاري؛ وكذلك في الأزمة الإيرانية، من خلال إدانة السلوك الأميركي، مع الدعوة لوقف التصعيد في الوقت نفسه.
الأزمات الدولية في عمومها لها مسارات معلومة، من أول اختراق خط المستوى «المعتاد» للتعامل، إلى ازدياد احتمالات استخدام القوة المسلحة، إلى المواجهة بالكلمة، وتجهيز القوات، ومحاولة تعبئة الموقف الداخلي، إلى مناشدة تأييد المواقف الدولية. بعد ذلك، فإن الأزمات إما تتجه نحو التهدئة باتخاذ خطوات تراجعية تدريجياً تمهد لمفاوضات وتسوية، وإما تبقى الأمور على حالها متوترة؛ أو تتجه الأطراف إلى الحرب، وهذه لعبة أخرى غير الأزمة. وقد مر الشرق الأوسط بجميع هذه الخطوات، وتعلق مصيره بحافة الهاوية؛ حيث جرى التراجع عنها عندما أطلقت إيران صواريخ لم تصب أحداً، في قواعد عراقية أميركية، كرد على عملية الاغتيال. وعندما قررت تركيا أن تحجم وجودها العسكري في ليبيا لمستشارين ومدربين، وتطالب مع روسيا بوقف إطلاق النار والمفاوضات بين الأطراف الليبية المعنية.