أناشيد التاريخ والثأر

السبت 11 يناير 2020 8:58 ص

ما أكثر أثقال التاريخ، وتعدد ألوانها، وخبطات أنفاسها! الدنيا حاضرٌ وماضٍ، وكذلك البشر في خضم تفاعلهم مع دوامة الصيرورة القاهرة بين بوابات الاختيار والأقدار يحذوهم ما مضى. هل نسينا نحن العرب الأندلس، وهي ليست أرضَنا؟ أو الحروب الصليبية وقد اهترأت قرون زمانها، وهل زالت جروح الحروب الأوروبية الأوروبية القارية والعالمية؟ نحن في ليبيا لم ننسَ فظائع الاستعمار الإيطالي، جسَّده الشعر الشعبي قبل وثائق المؤرخين، بمن فيهم الإيطاليون ذاتهم. معسكرات الاعتقال، وغارات سلاح الطيران، والإعدام الجماعي بالغاز السام، والمشانق التي تلتهم الشيوخ والشباب. الشعر الشعبي ترانيم تقرع الرؤوس والنفوس وتجتاز سدود الأيام والسنين.
بعد معركة قرارة عافية بالجنوب الليبي بين المجاهدين الليبيين والطليان، التي هُزم فيها المحتلون، أَعدم الغزاةُ 19 مواطناً من مدينة هون صباح يوم الأحد 15 - 11 - 1928 أمام أنظار أهل المدينة. مواطنة شابة، فاطمة عثمان، رأت مشهد الشنق من نافذة بيتها. غزلت حبلاً آخر على عنق الزمان والرجال ليبقى متدلياً في رقبة التاريخ الذي لا يموت. قالت فاطمة عثمان:
خرابينْ يا وطنْ ما فيكْ والِي
وذيلك جوالِي ولخرينْ في المشنقه والقتالي
خرابين يا وطن ما فيك هل
ركبك الذل اللي ما جلا في المشانق حصلْ
عدُّوا ولازول منهم وصلْ
وباتوا مدالي مثيلَ العراجينْ في راسْ عالِي
كلمات الشاعرة البسيطة فاطمة عثمان، التي قالت لوعتَها الوطنية في قصيدتها الوحيدة، كانت شحناتٍ عابرة في النفوس والرؤوس والمكان والزمان. حفظها الكبار والصغار وأضحت شعلةً تضيءُ وغضباً يقاتل.
الشاعر رجب بوحويش، أحدُ الآلاف الذين اعتقلوا في المعسكرات الإيطالية الفاشية بمنطقة العقيلة في شرق ليبيا، وهي الصنو للمعتقلات النازية الألمانية الرهيبة. في معتقل العقيلة جمع الفاشيست الطليان عشرات القبائل، ومعهم مواشيهم، وساموهم سوءَ العذاب والتجويع والضرب والإهانة للكبار والصغار والنساء والرجال. ماتَ الآلاف جوعاً ومرضاً وتعذيباً. انفجر الشاعر بوحويش غضباً وحزناً في ثورة تعبير نارية. قصيدته الملحمة الطويلة التي حفظتها الأجيال الليبية. قال الشاعر رجب بوحويش المنفي:
ما بِي مرضْ غير دارْ العقيلهْ وحبسْ القبيله
وبعد الجبا من بلاد الوصيله
ما بي مرض غير حد النكاد
وشوية الزاد وريحة اللي مجبرة بالسواد
ما بي مرض غير شغل الطريق وحالي رقيق
ونزوح وما طاق البيت ريق
وسواطنا قبال النساء في الطريق وبقينا زطيلة
ما طاقنا عود يشعل فتيلة
قصيدة طويلة باللهجة الليبية البدوية رصَّعها الحزن والغضب والتحدي. تحولت إلى مانفيستو الصمود الوطني، وما زالت إلى اليوم نشيد الكبار والصغار في كل أنحاء الوطن الليبي على امتداده.
الشاعر الكبير أحمد شوقي، كانت قصيدته الخالدة في رثاء شيخ الشهداء عمر المختار، بعد إعدامه على مشانق الطليان الفاشيست، طافَ صداها في كل الأرضي العربية:
ركزوا رفاتَك في الرمالِ لواءَ
يستنهضُ الوادِي صباحَ مساءَ
يا ويحهمْ نصبوا مناراً من دمٍ
يوحي إلى جيلِ الغدِ البغضاءَ
ما ضرَّ لو جعلوا العلاقة في غد
بين الشعوب مودة وإخاء
جرحُ يصيحُ على المدى وضحية
تتلمس الحرية الحمراء
بقيت تلك القصيدة ناقوسَ ضميرٍ إنساني، وهتافاً للحرية لا يخفت صوته في مسارات الزمان، منحوتة الحروف والبيان الشعري من عيار فريد جسد عظمة البطل التاريخي رمز الجهاد والشهادة.
النشيد الوطني الجزائري، صرخة الخلود التي تهز النفوس وتشعل التاريخ. كتبه مناضلٌ بدمه على جدار زنزانته رقم 69 سنة 1956 في خضم الكفاح الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. الشاعر مفدى زكريا الذي قاتل بالسلاح وحروف الدم ضد الاحتلال الاستيطاني الفرنسي. تحولت كلماته إلى صرخة لا تموت، بل تزداد حياة، بعد أن صارت نشيد الوطن الجزائري الذي يصدح به الكبار والصغار كل يوم. كتب مفدى زكريا على جدار زنزانته:
قسماً بالنازلاتِ الماحقات
والدماءِ الزاكيات الطاهرات
والبنود اللامعات الخافقات
في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا
في المقطع الثالث من النشيد، يقول مفدى زكريا:
يا فرنسا قد مضى وقتُ العتابْ
وطويناه كما يُطوى الكتابْ
يا فرنسا إنَّ ذا يوم الحسابْ
فاستعدِّي وخذي منا الجوابْ
إنَّ في ثورتنا فصلَ الخطابْ
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائرْ
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا
قام الفنان المصري المعروف محمد فوزي، بتلحين النشيد، وتحول في خضم الكفاح الجزائري ضد الاستعمار إلى هتاف تعبئة قتالية يتغنى به المجاهدون في الجبال والمدن والقرى، وبعد الاستقلال تمَّ اعتماده نشيداً وطنياً للبلاد، لكنه فجَّر معركة أخرى مع الحكومات الفرنسية المتعاقبة التي أصرت على حذف الفقرة الثالثة الموجهة إلى فرنسا. حجة الفرنسيين أن ذاك المقطع يتحدث عن ماضٍ قد تجاوزه الزمن بعد أن حصلت البلاد على استقلالها، ووجوده في النشيد الوطني يسمم العلاقات بين البلدين، ويعبئ الجيل الجديد الذي لم يعش سنوات الحرب بمشاعر العداء المستمر بين البلدين.
جرت بعض المحاولات لحذف ذاك المقطع من النشيد، خصوصاً في منهج التعليم الابتدائي، لكن رد الفعل كان عنيفاً على المستوى الشعبي، ما أدَّى إلى تراجع المسؤولين والإبقاء عليه في صلب النشيد الوطني. إنَّ للتاريخ أهراماً ليست من الحجارة، بل من الكلمات التي تجوس خلال النفوس والضمائر. لا يتوقف فعلها مع عاديات الزمان، بل تبقى أجراماً على الطريق وشعلاً لها وميض لا يخفت.

التعليقات