أكمَل مسيرته بعد أن قاد البِلاد إلى برِّ الأمان، حقّق الاستقرار، أو مُعظمه، وحافظ على الدّستور والدّولة المدنيّة، وانتصر للشّارع وانتِفاضته، وأطاح بالزّمرة الفاسِدة، ونظّم انتخابات شَهِد لها الكثيرون بالنّزاهة، ثمّ تَرجّل هذا الفارس العنيد في الحق، وفي حبّ الجزائر، وآنَ لهُ أن يستريح.
الجنازة الحاشِدة، والتّشييع اللّائق، والمحبّة العظيمة التي عبّر عنها الشّارع الجزائري وأبناءه الطيّبون، هي الاستفتاء الحقيقيّ الذي يُكذِّب كُل ما عداه، فالمشاعر العفويّة الصّادقة هي الاختِيار الحقيقيّ، وهي المِعيار الأدق للحُكم.
هذا الرّجل أحمد قايد صالح الذي قاد الجزائر في فترةٍ عصيبة، وبأعصابٍ فولاذيّة، كان يُجسّد عقيدة جيش وطنيّ حمى البِلاد، وحافظ على وِحدتها الوطنيّة والترابيّة، ومنع انزِلاقها إلى الفوضى، وكان الدّستور نبراسه وقدوته، يستحقّ كُل مشاعر المحبّة هذه من الشّعب الجزائريّ الذي كان واحِدًا منه، وشارك في بناء جيشه وتحديثه، وخاضَ حرب الاستقلال مُجاهِدًا، وحرب الأمّة العربيّة ضِد العدو الإسرائيليّ في عاميّ 1967 و1973 مُقاتلًا، وكان يتمنّى الشّهادة من أجلِ فِلسطين التي أحبّها بإخلاصٍ مِثل كُل أبناء الشعب الجزائري فردًا فردًا، نساءً ورِجالًا، رضعوا حُبّها الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم ولم يتخلّوا عنها في زمنِ الردّة العربيّة.
***
الفريق قايد صالح الذي غادرنا إلى الرّفيق الأعلى كان زاهِدًا في الحُكم، ولو كان يملك شهوة للوصول إليه لفعلها، وهو الحاكِم الفِعليّ للبِلاد طيلة عُقود، ولكنّه ترفّع عن أُسلوب الآخرين، وظلّ مُتماسِكًا بالدولة المدنيّة، وحامِيًا للدّستور، حريصًا على السّيادة، وعانَى من أجل ذلك الكثير، ولكنّه كظَم الغيظ، وتحلّى بالتّسامح، ولم يهبط إلى مُستوياتٍ مُتدنّية كان البعض يُريده أن يهبط إليها، وعندما أكمَل المَهمّة اختاره اللهُ إلى جانبه.. ونِعم الاختِيار.
القايد صالح انحاز إلى الشّعب، واحترم رغباته، وتعاطف مع مشاعره الصّادقة دون تردّد من موقعِ القويّ، بل الموقع الأقوى، وكان سنَدًا لانتفاضته، وحَرِصَ على تنفيذ مطالبها كاملةً، ليس بالإطاحة بالنّخبة الحاكمة الفاسدة فقط، وإنّما باعتقال، وتقديم كُل من نهَب أموال الشّعب الجزائريّ إلى العدالة لتقول كلَمتها.
أحبّ فِلسطين، أحبّ أمّته، مثلَما أحبّ الجزائر، وها نحن نبادله والملايين غيرنا، الحُب نفسه، هذا الرّجل الذي حَرِصَ دائمًا على الحديث بلُغَة القرآن حتّى في مجالسه الخاصّة، ولم يلحّن، أو يعوّج لسانه بلُغةٍ أُخرى، والفرنسيّة خاصّةً، وكان رجُلًا مُؤمنًا مُتماسِكًا بعقيدته الدينيّة والعسكريّة.
لم يكُن السيّد عبد المجيد تبون هو الوحيد الذي انفَجر باكِيًا أمام نعشه الطّاهر، وإنّما الملايين أيضًا داخِل الجزائر وخارجها، الذين يُقدّرون جُهوده في تجنيب البِلاد العُنف والفوضى، ولم يسمح للجيش أو قوّات الأمن بإطلاق رصاصة واحدة على المُحتجّين أو المُقاطِعين للانتخابات، رُغم الاستِفزازات والانفِعالات التي نتفهّمها، ونعتبرها مشروعةً في ظِل ما واجهته الجزائر من مآسي في ظِل العِصابة الحاكِمَة.
نحن والكثيرون غيرنا، كُنّا نعرف حجم المُؤامرة التي كانت تُحاك في الغرب للجزائر، ونملك تفاصيل التّفاصيل، ولهذا لم ننجر إلى بعض الشّعارات، فالجزائر كان الهَدف للتّمزيق والتّفتيت بعد سورية وليبيا واليمن والعِراق، كانت مُؤامرةً لحربٍ أهليّةٍ عِرقيّةٍ، رأسُ حِربتها من يُريدون الثّأر من هزيمتهم على يَد أبنائها المُجاهدين، ولهذا وقَفنا في خندق هذا الرّجل وصَحبِه في وجهها، مثلَما وقَفنا مع العِراق وسورية واليمن وتونس.
***
نقول لهذا القائد الشّجاع الذي تَرجّل وبعد أن وضع البِلاد على الطّريق الصّحيح والحَد الأدنى من الأمن والاستِقرار، وإن شاء الله الازدهار واستعادة مكانتها التي تستحق بين الدّول في مُحيطَيها الجُغرافيّين، العربيّ والأفريقيّ، نقول له ومع المَلايين التي شيّعته إلى جنّة الخُلد بإذن الله، نقول له وداعًا من القلب.. هذه هي الجزائر الولّادة، وهذا هو إرثها العظيم المُستَمِر في إنجاب الأبطال، وستستمر المسيرة نحو العُلا بإذن الله.. والأيّام بيننا.