غني عن القول إنني لست ممن يعرفون الكثير عن البورصات المحلية في مصر، وبالتأكيد العالمية خارجها، ما أعرفه أنها واحدة من علامات الاقتصاد الذي له علامات كثيرة، التي كثيراً ما يحذر الاقتصاديون من الاعتماد على واحدة منها فقط، فهي كما يقولون حزمة من الشواهد التي تدل على الصحة الاقتصادية، وعما إذا كانت عفية، ومستمرة في عنفوانها، أو أنها تتعثر أو تعاني من وهن أو مريضة.
ولكن المؤكد أن يوم الأربعاء 11 ديسمبر (كانون الأول) سوف يسجل في التاريخ على أنه علامة فارقة في التاريخ السعودي من ناحية، والتاريخ الاقتصادي العالمي من ناحية أخرى. العلامة الفارقة لأنه جاء أخيراً بعد بدء عملية الإصلاح الكبرى في تاريخ المملكة منذ عام 2015، وما صاحبها من «رؤية 2030»، ويومها كانت الراية المعلنة هي نية طرح 5 في المائة من أسهم شركة «أرامكو» في بورصة التداول السعودية، ومن بعدها العالمية. 4 سنوات مضت على ما جرى الإعلان عنه، ومن الجائز القول إنه من الأفضل أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي على الإطلاق؛ ولكن ربما كان الأكثر فضلاً هو أن في الأمر حكمة مفيدة حول الإصلاح وكيف يأتي. فما حدث خلال السنوات القليلة الماضية، على الساحات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، في المملكة، لم يكن لعقل أن يصدقه؛ ولم يكن ذلك لأنَّ الإصلاح كان غائباً عن الدولة، وإنما لأنَّه كان بطيئاً للغاية، وتغلفه دائماً صيحات التحذير والدعوة للتحوط، والتدرج؛ وحتى في الدول الغربية التي كثيراً ما ألحت على الإصلاح، فإنها كانت سريعاً ما تحذر من الآثار السياسية والاجتماعية للإصلاح. ما حدث أن القيادة في الدولة السعودية باتت على يقين أن الإصلاح لا يمكن أن يتأخر أكثر من ذلك، لأنَّ العالم لم يتوقف عن التقدم والسبق، ولأنَّ السعودية من حقِّها أن تعيشَ وفقاً لقدراتها ومكانتها، ولأنَّ الحقيقة هي أن المملكة ليست دولة نفطية وحسب، وإنما هي أكثر من ذلك بكثير؛ وأكثر من ذلك كله أن الشباب السعودي يشكل أغلبية سنِّية تعبر عن جيل جديد عرف العالم، وربما آن للعالم أن يعرفه.
وعندما جاء الدور على «أرامكو» كانت البيئة الإصلاحية السعودية مهيأة لاستقبال الخطوة الكبيرة. كان ما يتمناه العالم على السعودية أن تقود النساء السيارات، فإذا بها في الواقع الإصلاحي هي عملية لتحرير النساء في المملكة، ليس فقط أمهات وأخوات، وإنما عاملات مشاركات في بناء الدولة التي باتت وطناً لها تاريخ عميق وممتد. لم يكن ممكناً أن تستورد المملكة العمالة من كل أنحاء العالم، بينما لديها فائض من النساء الحاصلات على أعلى درجات العلم من أفضل الجامعات العالمية. ولم تكن الرؤية فقط إعادة اكتشاف البشر رجالاً ونساءً، وإنما إعادة اكتشاف الوطن وتاريخه الذي أسفر عن آثار تعود إلى ما قبل التاريخ الميلادي، وعلى الرغم من أن لذلك تأثيرات في النظرة إلى السياحة الثقافية مضافة إلى السياحة الدينية المعروفة في مواسم الحج، وإنما فتح الأبواب نحو شواطئ وسواحل المملكة على البحر الأحمر. كان تخطيط الحدود البحرية بين مصر والسعودية إعادة تركيب الجغرافيا السعودية في اتجاه الغرب، كما جرى لحالها على الجانب الآخر في مصر في اتجاه الشرق، وعندها تتطابق الرؤية المصرية مع السعودية عبر خليج العقبة إلى سيناء، حيث التعمير، وامتدادات «نيوم» العمرانية. لم يكن التاريخ يتغير فقط، وإنما كانت الجغرافيا أيضاً.
تغيرت الأمور كثيراً في المملكة، وبات على من يزورونها أن يكتشفوها من جديد كل مرة، وعندما تقرر أن يكون يوم 11 ديسمبر (كانون الأول) هو بداية طرح أسهم شركة «أرامكو»، فإن إعلان الخبر كان في حد ذاته خطوة، وتحديد قيمة السهم الأولية «IPO» خطوة أخرى، ثم طرح الأسهم على الشركات والهيئات للاكتتاب خطوة ثالثة إلى اليوم الكبير. كان في الأمر نوع من المباراة، فقد أعلن ولي العهد أن قيمة شركة «أرامكو» هي 2 تريليون دولار؛ ولكن التقدير الغربي رأى في الأمر مبالغة، ربما نتيجة انخفاض أسعار النفط، فرغم التأكيد على أن قيمة الشركة سوف تجعلها في مقدمة الشركات العالمية، إلا أن التقدير راح يتراوح حول 1.5 تريليون دولار. ما حدث فعلياً هو أنه مع بدء التداول في أسهم الشركة، فإنه وفقاً لما تم شراؤه بالفعل رفع قيمة «أرامكو» السوقية إلى 1.88 تريليون دولار، متخطية في ذلك قيمة شركة «آبل» 1.2 تريليون دولار، وشركتي «مايكروسوفت» و«علي بابا» الصينية، وقيمة كل منهما 1.1 تريليون دولار. وليس ذلك نهاية المطاف، وما زالت المعلومات تتدفق، ومنها أن سوق «تداول» السعودية أحرزت المكانة التاسعة عالمياً، متقدمة على الأسواق الكندية والألمانية؛ وكل ذلك ولم يكن قد تم تداول أسهم «أرامكو» في الأسواق العالمية الأخرى.
الحدث في عمومه يجري تداوله على صفحات وموجات الإعلام العالمي، باهتمام بالغ، ربما لأن شركة غير غربية، وعربية أيضاً، تقدمت على بقية شركات العالم، ولكن إشهارها كان أيضاً نوعاً من التحدي للظروف الصعبة التي نجمت عن قيام إيران وحلفائها بقصف منشآت «أرامكو»، وعلمياً وعملياً لم يكن ذلك هو الوقت الذي تشهر فيه الشركة، ففي ظل كل الملابسات العنيفة، فإن التأجيل يكون مرجحاً. ولكن الثابت الآن أن ذلك كان هو الوقت المناسب تماماً، لأن طرح الشركة لم يكن عملية اقتصادية محدودة، وإنما لأنها جزء مهم من عمليات الإصلاح الاقتصادي الشاملة التي تجريها السعودية على كثير من الأصعدة التي تحقق التنوع في الاقتصاد السعودي من النفط إلى التصنيع إلى الخدمات إلى السياحة، وهكذا أمور متعددة. فمن المدهش أنه رغم أن المملكة لم تكن يوماً ما بلداً اشتراكياً، فإن الطبيعة النفطية لاقتصاد الدولة جعلتها هي الممسكة بكل القطاعات الاقتصادية الأخرى، المتدخلة في السوق والأسعار دعماً وأجور إنتاج واستهلاكاً. ما جرى خلال السنوات الماضية كان عملية تحرير للاقتصاد السعودي، وتفعيل للاقتصاد السعودي، حتى إن المملكة قفزت لمراتب متقدمة في تقرير ممارسة الأعمال العالمي، ومع ذلك إطلاق يد القطاع الخاص للعمل في المجالات المختلفة، وهو الذي أثبت حيويته بالفعل في الكثير من مناطق الاستثمار العالمية. باختصار كانت «رؤية 2030» يجري تطبيقها في الواقع.
«أرامكو»، على أهميتها الكبيرة، فإنها نقطة مهمة على منحنى الإصلاح المتصاعد في المملكة تنضم إلى كثير من النقاط الأخرى التي تشكل التوجه الذي تسير فيه الدولة السعودية. وربما تكون الفائدة الكبرى من الخطوة الإصلاحية الجديدة أنها سوف تلفت النظر إلى العملية الإصلاحية الكبرى، التي تمت خلال 5 سنوات فقط، فماذا تكون عليه الحال بعد 10 سنوات أخرى؟