تعقيدات المشهد السياسي اليمني

السبت 16 نوفمبر 2019 5:03 م

 المشهد السياسي اليمني معقد ، نتيجة الحرب المدمرة لاكثر من خمس سنوات ، وهي الآن على وشك الدخول في مرحلة اخرى بعد اتفاق جدة ــ الرياض . القوى السياسية المتنافسة لا تزال تعيش في دوامة و في حالة من الإرباك ، إما نتيجة عدم قدرتها أو عدم رغبتها في تحديد الهيكل المستقبلي لليمن بوضوح ، كدولة . المفاوضات بين الاحزاب المتنافسة بدأت من أول يوم في الانتفاضة الشبابية 2011 حتى اتفاق جدة ــ الرياض 2019  ، لكن فشلت الاحزاب في تحقيق أي تقدم  بسبب  الغموض حول مسألة الدولة اليمنية المستقبلية . أختلفت القوي السياسية حول كيف يجب ان تكون الدولة . من يقول دولة واحدة ، و آخر يقول دولتين أو متعددة ( اقاليم ) . أيضا يختلفون كيف يجب ان تكون دولة اليمن موحدة أو مرتبطة من خلال اتحاد فيدرالي أو نظام كونفدرالي . الى الآن ظل مستقبل البلاد بلا إجابة .

في عام 2017 وصلت القوى المتنافسة في اليمن إلى طريق مسدود ، طوال تلك السنة جبهات القتال الرئيسية تم تجميدها تقريبا . في هذا العام 2017 انشق الرئيس صالح من التحالف الذي يربطه مع انصار الله . في أوائل ديسمبر 2017 اندلعت اشتباكات عنيفة في شوارع العاصمة اليمنية ، و قتل صالح على أيدي المقاتلين . بعدها هرب العميد طارق محمد عبدالله صالح قائد قوات الحرس الجمهوري إلى خارج صنعاء . في عام 2018 حركت الحكومة الشرعية و قوات التحالف جبهة الساحل الغربي بقيادة الجيش الجنوبي ( و اغلبهم من محافظة لحج ) الذين يرتبطون بالحزب الاشتراكي اليمني و بدعم بحري و جوي من قبل تحالف مجلس التعاون الخليجي . و التحق بالقوات الحكومية العميد طارق محمد عبدالله صالح . يوجد في الساحل الغربي ميناء الحديدة ،و هو ميناء  استراتيجي في البحر الاحمر وهو تحت سيطرة أنصار الله . ان الاستيلاء على ميناء الحديدة يمنع وصول الطعام و اللوازم الطبية لنحو 15 مليون شخص في المناطق التي يسيطر عليها انصار الله على طول ساحل تهامة و الجبال الداخلية في اليمن . تدخل المبعوث الخاص للأمم المتحدة ، الدبلوماسي البريطاني مارتن غريفيث و الدول الكبرى . مورس ضغط كبير على التحالف العربي لإيقاف عملية تحرير الحديدة و دفع الاطراف المتنازعة للتفاوض على وقف اطلاق النار ، و توقيع اتفاقية ستوكهولم بين الحكومة الشرعية و سلطة امر الواقع في صنعاء ( أنصار الله) .

كان المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن ، الدبلوماسي البريطاني مارتن غريفيث يأمل من خلال جمع الأطراف المتحاربة في محادثات السويد ، اولا : التفاوض على وقف اطلاق النار لضمان استمرار الغذاء و الدواء إلى حوالي 15 مليون يمني ، يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها أنصار الله . ثانيا : دفع الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب من خلال عملية خطوة خطوة . لسوء الحظ ، فشل كلا الجانبين في الالتزام بتنفيذ عما اتفق عليه في السويد . و هذا احد العوائق الرئيسية في تأخير التفاوض لانهاء الحرب في اليمن عبر عملية خطوة بخطوة .

ومن سلبيات التأخير في تنفيذ اتفاقية ستوكهولم تدحرجت الاحداث الى الأسوأ . حيث اتهم قادة الجيش المتواجدين في جبهة الساحل الغربي وهم من الجيش الجنوبي ( و أغلبهم من محافظة لحج ) ، حزب الاصلاح المشارك في حكومة الشرعية بالخيانة و التآمر في تسليم معسكرات الشرعية في دمت و مريس و البيضاء في أبريل 2019 لأنصار الله ، لإفسح الطريق أمامهم لمهاجمة الجنوب من جبهة الضالع و يافع ، و لتصفية القيادات الجنوبية و تدمير قوتهم العسكرية . لكن قبل ان تنتهي هذه المعركة ظهرت أحداث أغسطس 2019 في عدن .

احداث أغسطس 2019 الى حد ما امتداد لاحداث يناير 1986 ، صراع على السلطة . الانقسام الذي حدث في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني في يناير 1986 كان بين مجموعة الرئيس علي ناصر محمد و عبدالفتاح اسماعيل الجوفي ، الذي جاء على خلفية انتماءاتهم المناطقية و القبلية و لا تزال هذه الانقسامات المناطقية موجودة الى اليوم . القوات التي وقفت بشكل رئيسي مع على ناصر هي من مناطق أبين و عدن و شبوة و حضرموت و المهرة . بينما تحالفت مع عبدالفتاح اسماعيل مقاتلين في معظمهم من مناطق لحج و الضالع و يافع و الجبهة الوطنية ( الشمالية ) .

تتكرر المأساة مرة اخرى ، بعد ان عزل الرئيس عبدربه منصور هادي ( هو من أبين ) المدعوم سعوديا ، و تدعمه قوات الحماية الرئاسية ، معظمها قادمة من محافظة أبين . أما المعارض لهادي محافظ عدن السابق عيدروس الزبيدي ( هو من الضالع ) المدعوم إماراتيا ، والذي أسس المجلس الإنتقالي الجنوبي في 2017 ، تدعمه المجموعة الاولى قوات " الحزام الأمني " التي تتشكل بشكل رئيسي من مقاتلين من منطقة يافع بقيادة السيد هاني بن بريك ( سلفي من مجموعة الشيخ مقبل الوادعي ) ، و هو نائب رئيس المجلس الإنتقالي الجنوبي . و تدعم الزبيدي ايضا المجموعة الثانية "افراد قوات أمن عدن" و هم مقاتلين من محافضة الضالع ، و يدعم كلا الفصيلين الإمارات العربية المتحدة .

من اسباب احداث  أغسطس 2019 في  عدن ، هو شعور  عيدروس  الزبيدي و أنصاره بالتهميش من قبل هادي و عدم اشراكهم في الحكومة أو ضمن الوفد المشارك في المفاوضات الدولية ( السويد ) . لذا كانت احداث أغسطس لفرض وجود المجلس الانتقالي كأمر واقع . المجلس الإنتقالي يريد ان يكون له نفوذ على المناطق التي يسيطر عليها و في الحكومة . تعهد له التحالف بذلك ، بتقسيم السلطة بينه و بين هادي ، بهدف توحيد الصف مؤقتا لمحاربة أنصار الله .  فذهب الى جدة و الرياض للمشاركة في المفاوضات . بالفعل حصل المجلس الإنتقالي على ما كان يطمح له .

الإمارات لا تدعم فقط  الفصيلين  المذكورين  اعلاه  ، هي تدعم ايضا " النخبة الحضرمية " و " النخبة الشبوانية " بهدف تفتيت اليمن بما يضمن لها السيطرة على العمليات العسكرية في منطقة البحر الاحمر . و مع ذلك ، لم تستطع ان تحقق أي شيئ لان حضرموت هي المنطقة الوحيدة الصعبة و المتميزة في اليمن بشطريه . تشكل عقبة في وجه أي مشروع انفصالي الذي يروج له أي من كان من مكونات الحراك الجنوبي . نحن نتذكر نزعة الاستقلال قديمة عند الحضارم . على سبيل المثال "الجمعية الحضرمية" التي نواتها " جمعية الأخوة و المعاونة " تأسست في 1930 في مدينة تريم – حضرموت . و كانت تطالب بتأسيس دولة حضرموت الكبرى و عودة الحضارم من الشتات ( 25 مليون حضرمي في شرق آسيا و الهند و دول مجلس التعاون الخليجي و شرق افريقيا ، قد اكتسبوا خبرات هذه الشعوب التي تساعدهم في تنمية و تطوير وطنهم الام ) . يشجع الحضارم على الانفصال عدم الاستقرار في اليمن وامتلاكهم احتياطيات كبيرة من النفط والغاز ( 75% من دخل اليمن من حضرموت ) . بالاضافة إلى دخول اخرى من الصيد السمكي و من قطاعات المصارف و الزراعة و من السياحة و الصناعة و غيرها . و اضافتا الى ذلك هناك ثغرات في وثيقة الاستقلال ، تشير الى ان حضرموت لاتزال محمية بريطانية وفق الصيغة القانونية لاعلان استقلال الجنوب من بريطانيا . حيث ان الاستقلال الذي حصل عليه الجنوبيون اثر مفاوضات الاستقلال بين الوفدين اليمني و البريطاني لم ينص ذلك الاعلان على تسليم المحمية الشرقية لعدن التي تضم " حضرموت و المهرة و سلطنة الواحدي " وثيقة اعلان الاستقلال تشمل تسليم الاستقلال لمحمية عدن الغربية في 30 نوفمبر 1967 و حضرموت ليست جزء من المحمية الغربية . و الاهم ما أشار اليه كاتب التقرير التحليلي الصادر عن معهد ( Middle East Institute ) الأمريكي . الذي تحدث على رمزية حضرموت و ظهورها بوضوح عند توقيع اتفاق الرياض في 5 نوفمبر 2019 . لم يوقع على الاتفاق الرئيس هادي أو رئيس الوزراء معين ، وقع عليها نائب رئيس الوزراء السيد سالم الخنبشي من محافظة حضرموت الشرقية . وهذا يسلط الضوء على انصار الفيدرالية و الانفصال .

صحيح ان الانتقالي يضع حضرموت ضمن حساباته لاعتبارات اقتصادية و اخرى متعلقة بالوضع العام في الجنوب . لكن حضرموت في مزاجها أبعد عن المزاج السائد في الضالع و لحج ، التي تعد عمق المجلس الإنتقالي . أما خطابه خلال فترة انعقاد الدورة الثانية للجمعية الوطنية للمجلس الإنتقالي في مدينة المكلا في فبراير 2019 ، و الذي قال فيه السيد عيدروس الزبيدي " آن لحضرموت ان يحكمها و يديرها أبناؤها ، آن لأبناء حضرموت ان يستفيدوا من خيراتها و ثرواتها ، يجب ان تمنح هذه الارض فرصتها و يجب ان يكون لأهلها سيادتهم الكاملة عليها " yemenat.net . يفهم من هذا الخطاب على انه تحريض لقطع الطريق أمام أي مكون من مكونات الحراك الجنوبي ، مثل مجلس الانقاذ الوطني و القوى الوطنية الأخرى من النشاط في المكلا و مدن الساحل و وادي حضرموت . لكن مصداقية هذه الكلمات تظهر عند مقارنتها بخطاب يوم الثلثاء 28 أغسطس 2019 ، نجدها كلمات للاعلام و كسب الاصوات .

و مرة اخرى نناشد القوى السياسية الرئيسية في الجنوب العودة الى الحاضنة الشعبية للمقاومة لرص الصفوف مع بعض و نبذ الخلافات و تعزيز جبهة المقاومة و الصمود ضد المحتل السعودي و اعوانه و اسقاط مشاريعه . حاضنة المقاومة لم تكن جدة أو الرياض أو ابوظبي أو الدوحة و مسقط ، انما عدن – صنعاء – المكلا . فإذا كان للسعودية مشاكل مع إيران أو صنعاء تذهب و تحلها معهم ، مع تمنياتنا لهم بالتوفيق . و قد سبقتهم الإمارات العربية في حل مشاكلها مع إيران . و نحن لا نريد ان نكون وقودا لهم .

هنا اقدم رأي للأشقاء في جماعة أنصار الله ان لايرفعوا سقف مطالبهم عاليا . انتم تعرفون ان  الجنوبيين تعرضوا لكثير من المظالم و الاضطهاد من بعض اخوانهم الشماليين قبل وحدة 1990 ( من التيار الشمالي في الحزب الاشتراكي و من الجبهة ) و بعد وحدة 1990 ( من علي عبدالله صالح و حزب الاصلاح ) . هذا عكس نفسه سلبا على مفهوم الوحدة . اقتبس هنا من مقال للاستاذ القدير دكتور محمد على السقاف " اعتبر الجنوب بعد هزيمته العسكرية في حرب 1994 غنيمة حرب ، بشرعنة هذا التوجه عبر آليات تشريعية مختلفة صدرت كلها بعد الحرب ، مثل قانون 1995 المتعلق بأراضي و عقارات الدولة الذي سمح لرئيس الجمهورية بتوزيع أراضي و عقارات الدولة بشكل رئيسي في الجنوب على أفراد اسرته ، و على العسكريين و التجار و الشيوخ الذين شاركوا في حرب 1994 مكافأة لهم ، إضافة الى توزيع امتيازات نفطية في اراضي الجنوب لعدد من الشخصيات القبلية و العسكرية الشمالية ، و لبعض اقارب الرئيس ، بما في ذلك شركات الخدمات البترولية التي احتكرت بيد شخصيات غير جنوبية ، و استقدمت غالبية العمال فيها من خارج أبناء المحافظات المنتجة للنفط في الجنوب ، وفق ما ورد في " تقرير باصرة – و هلال " . الآن من يضمن ما تتكرر هذه المأساة .       

حان الوقت للتفكير بجدية اولا في تحديد الهيكل المستقبلي لليمن بوضوح ، كدولة ، لتجنب و معالجة اخطاء الماضي . الآن بعد اتفاق الرياض في نوفمبر 2019 تغيرت كل المفاهيم السابقة . أصبح التحالف و المجتمع الدولي يعلم إن احتمال استعادة هادي للسلطة و الحفاظ على اليمن الموحد اصبح صعب جدا . و تعلم السعودية انه لايوجد للتحالف خيارات عسكرية سهلة لقلب الوضع ضد أنصار الله ، خاصة بعد هجوم سبتمبر على منشآت النفط السعودية . و نشاهد ايضا تراجع الرياض و أنصار الله عن الحرب الشاملة . وبدأ كلا الطرفين في التفكير الجدي ، في الخروج من الحرب الدامية و التي تسببت في أسوأ كارثة انسانية في العالم . و ما اتفاق الرياض الا إشعار ضمني لنهاية حقبة دولة الوحدة 1990 و نهاية شرعية عبدربه منصور هادي ، هذا ضمن استراتيجية سعودية ــ إماراتية و برعاية دولية . بالتالي يجب على القادة اليمنيين في المجلس الإنتقالي و فصائل الحراك السياسي الجنوبي و الأشقاء في حركة أنصار الله  التفاوض و الإسراع في وضع حلول عملية و مخارج صحيحة تخدم المصالح الوطنية .

نعلم ان الأحزاب المتنافسة الى الآن فشلت في تحقيق أي تقدم في المفاوضات و كان ذلك بسبب الغموض حول مسألة الدولة اليمنية المستقبلية . فمنهم من يقول دولة واحدة ، و آخر دولتين أو دول متعددة ( أقاليم ) كما أشرنا سابقا . و يختلفون ايضا كيف يجب ان تكون دولة اليمن مستقلة ، فيدرالية أو نظام كونفدرالي . الى الآن ظل مستقبل البلد بلا إجابة .

التوصيات : الوحدة اليمنية شيئ لا نقاش فيه ، فهو لا بد ان يتحقق اليوم أو غدا . لكن يجب ان تهيئ الظروف نجاحها واستمرارها . لذا نناقش  اقتراح  قد  ينفع  الجميع  وهو اننا  نؤكد ان فك الارتبط صعب  تحقيقه . و الفيدرالية  صعب  تحقيقها ايضا الآن ، نتيجة مخلفات الحروب المؤلمة التي حصلت خلال ( 29 عام ) منذ 1990 حتى اليوم 2019 . لذا لا بد من مرحلة انتقالية كحل وسط .

1 : قيام نظام كونفدرالي و اعادة النظامين السابقين الى الفترة ما قبل 1990 بكل مكوناتها . و ذلك كمرحلة انتقالية و لمدة خمس سنوات . على ان يقوم كل شطر بمعالجة مخلفات و مآسي الانظمة الفاسدة قبل و بعد الوحدة 1990 . و تشكيل لجان من الشطرين لكتابة و صياغة قوانين دولة الوحدة لبعد الفترة الانتقالية . 

2 : أو قيام بلد واحد بنظامين مختلفين ( تجربة الصين – هونغ كونغ ) . و الحفاظ على اليمن الموحد ، تحت راية الجمهورية اليمنية . على ان تحتفظ كل دولة بأنظمتها السياسية و الاقتصادية و القانونية ، حتى بالنسبة للعلاقات الدبلوماسية مع الدول الاخرى .

كاتب و محلل سياسي يمني

التعليقات