مع إحساس البعض بزيادة أو نقصان في كفّته يظن طرفا الصفقة أن لدى كل منهما نصف الكأس “المقسومة” بما يسد الحاجة مؤقتاً دون أن يجرح التوازن الحالي… فاتفاق الرياض بوضعه القانوني السياسي يمثل كرّاسة عازلة بين “أدبيات” المجلس الانتقالي و”المرجعيات والثوابت” المغنّاة بصوت إعلام الشرعية/ الإصلاح إلى حين الإنتهاء من المهمة المرحلية، مع حق كل واحد بالاحتفاظ بأمانيه وأمانته.
ويُعتقد أيضاً أنه محاولة جادة لإخراج الوضع في المناطق المحررة من حالة “الستاتيكو” التي طال بلاؤها وقادت إلى علاقة متفجرة أراد الإخوان من ورائها إنضاج شروط 94 جديدة على الجنوب بشعارات الشرعية وبذات الائتلاف الكريه، الذي رافقته هذه المرة محاولات حوثية جادة لإشغال جبهات محددة بهدف تسهيل مهمة الإخوان.
هذا كله شكّل حالة محيرة للغاية في مجريات حرب أنتجت بلاء كارثي على المناطق المحررة تاركة العدو المفترض حراً.
ولإثراء الفكرة يتعين عدم إغفال سياقات ظنيّة راودت بقوة كثير من عقول المراقبين بأن عاصفة الحزم، بالغفلة أو لسبب آخر، أنتجت قوة كبيرة على الأرض ل”وكيل تركيا/قطر” ومدجج بأسلحة التحالف… ولهذا تحول الصراع إلى مشهد سريالي غامض يخدم لسنوات بقاء “وكيل إيران” المحلي محصن آمن يلعب بأوراقه بكل أريحية شمالاً.. بينما يُراد للجنوب أن ينزاح تدريجيا إلى حصة تركيا/قطر، بعد أن نجح الإخوان في تحويل “رمزية الشرعية” إلى منظومة سياسية عسكرية إعلامية تتبعهم حصرياً.
وقد كان لافت، في هذه الحدوثة المظلمة، حال الإعلام السعودي (ذات نفسه) الذي أصيب بهوس الرقص خارج الإيقاع بعد أن علِقَ في حبائل خطاب الإخوان بحيوية غريبة وبصورة لا تبتعد كثيراً عن حركات المصاب بلدغة الرتيلاء.
أي أن واقع ما قبل الاتفاق وبشفافية عالية ساعد على الاعتقاد بأن عاصفة الحزم الحزينة تمخضت في أن يتفرغ الحوثي تماماً لاستنزاف القوات الجنوبية إذ لم يعد لديه أي هم آخر… يقابل ذلك تمدد “فرسان الخلافة” على مناطق جنوبية حيوية من المهرة وحتى “معبر شقرة” الذي صنعوه ليصبح منفذ حدودي بين مشروع “دولة الخلافة الاسلامية” و”دار الكفر” القابل للغزو كما كان الحال في٩٤. وكأن التاريخ يعيد نفسه ولم تتغير فيه أشياء سوى أدوات الخديعة. كما أن فاعلية الإعلام (الإخواني) الصاخب استطاع إلى حد ما أن يحفر خندق بين حلفاء الحزم!
إذاً ووفقا لهذه السردية البانورامية يبرز السؤال: هل كان اتفاق الرياض، الذي حظي باهتمام كبير، مدفوعاً بنوايا تصحيح ذلك الخلل وإحداث تغيير جوهري على رقعة الشطرنج؟ أم أنه فقط محطة تكتيكية ضرورية تمتص حالة صراع “الحلفاء في الداخل” وتمكن الرياض من الكنترول المباشر على الجميع واختبار الواقع دون إدراك للخطوة اللاحقة؟
ومع أن البعض اعتبر أن هناك حاجة اضطرارية لاتفاق ما لحقن الدماء التي وجد طرف بعينه فرصته لسكبها فوق أرض الجنوب والاستدارة نحو تحقيق هيمنة عسكرية مطلقة بعد أحداث شبوة… إلا أنه من المؤكد أن الاتفاق كان ضرورة للتحالف العربي الذي اكتشف أنه على شفا جرف يماني من العيار التاريخي الذي انزلقت على انحداره تشكيلات من أحد أهم الجيوش العروبية.
لهذا يتعين التذرع بالصبر حتى تظهر تضاريس الاتفاق على أرض الواقع لأنه (الاتفاق) بحد ذاته مجرد وسيلة لا تبرر التباهي بها. وبغض النظر عن طبيعة الخطوة القادمة فإن الرهان على الدفع بقوات حزب الإصلاح للجبهات وإخلاء المدن الجنوبية منها يعتبر المحك الرئيس للحكم على اتفاق الرياض.
هل هذا كل شيء؟ بالطبع لا، إذ يلزم التأكيد أن أي اتفاق مرحلي يعتبر ترحيل لأي تسويات ناجزة حتى تحط الحرب أوزارها وتفرز خريطة نهائية للقوى الفاعلة وخلاله “لا يجوع الذئب ولا تفنى الغنم”. فالرحلة إذاً شديدة المخاطرة والطرق وعرة للغاية لأن المشهد مكتظ بالعقائد الأيديولوجية ومتشبع بالمنهج السياسي الذي تراه تيارات يمنية بفطرتها التاريخية على أنه ضرب من الحيلة والاحتيال ناهيك عن قواعد التقية (المتطورة) التي تبيح كل صنوف الكذب والغدر… وهكذا تحترق المراكب قبل إبحارها. لهذا سيظل هناك خوف من الإخفاق في ضبط المشهد مجدداً إذا لم يدرك الإقليم حقائق التيارات الدينية المسلحة وتبعيتها وطموحاتها التي تصب في الأهداف الجيوسياسية للدول الراعية لهذه التيارات.
ومن هنا تبرز ضرورة الحذر من خبرة الإخوان في توظيف كل الفرص لمصلحتهم، ومقاومتهم لأي تغيير، وقدراتهم على توزيع الأدوار والتعامل بنفس طويل للغاية، كما أن القوة الناعمة الهائلة التي استطاعت أن تبتز الدور الذي لعبه طرف في التحالف قادرة أيضاً أن تفعل الشيء ذاته مع السعودية لتمنع أي تقارب سعودي مع “غير الإخوان”.
و بالمجمل يتعين أن يقال في خاتمة كل كلام: أن لا شيء يفرح سوى الخلاص من الحرب بصورة كاملة وفرض حلول حقيقية نهائية ومستدامة بمساعدة الإقليم والعالم، مع ضمان حق اختيار الناس لمستقبلهم.
عدا ذلك ستشيخ وجوه الأجيال من عبوسها قبل أن ينبلج صباح يوم جديد.