في ساحات "الشمال" نُصبت الخيام وكانت بمثابة مركبات هُواة تحلق بهم فوق تضاريس مجد الأمجاد الإفتراضية. لكن قيادات المنصات بعد أن صعّدت وتيرة الصراخ قدّمت قائد "قبيلة قايي" لجماهير الهتيفة لكي يبشرهم بقدوم الخلافة الإسلامية إلى مرافئ 2020. أي حين غزت اشباح الغاب التاريخي منصات الثوار توشحت أحلام الشباب بظلام الخديعة وتحولت الوعود إلى خفافيش شؤم ظلت تحوم فوق أودية الانتظار المختنقة بأوحال الدماء فتركوا بلادهم بين أوار صحاري الجوف وضنك صخور صعدة. حتى وصل عام "2020" ولم يحل في مرافئه شيء عدا كورونا.
"حوار الجدران الصماء"
وفي ساحات الجنوب تحدى الثائرون أنواع القتل والإخفاء والقصف العشوائي على التجمعات البشرية ثم خرجوا إلى مواجهات مفتوحة عام ٢٠١٥م وانتصروا حتى ظن الجميع أن الحلم أصبح على بعد حارتين وشارع وأنهم قريبون من لحظة الميلاد لكن الأيام طالت واستدارت حتى أصبح (القادة المسافرون) مشدودين إلى خشب الجفر العائم فوق (اليَم) إلى عتبة البلاط بانتظار "حوار الجدران الصماء"... بينما بلادهم تتحفز نحو عام الخلاص، 2020، الذي يبدو أنه (ايضاً) شاق من أوله يحمل ذاك النبأ ويفرض على الناس كغيرهم بين حين وآخر العودة إلى بيوتهم ليحفظوا الأرواح خلف جدران العزل.. بينما يواصل المقاتلون المنتصرون التناوب في الجبهات على مسرح عمليات هو الأكبر في التاريخ حيث تساندهم (المملكة) في جبهة وتساند عدوهم (أكثر) في جبهة أخرى.
رحلة الشتاء والصيف
في مارس ٢٠١٥م اختنقت سماء صنعاء بطائرات التحالف فتطايرت أحشاء الجبال كتلاً نارية بحجمٍ يوقظ ذاكرة البراكين، حتى ساد الرماد وتضاءل الهواء وسارع الجميع إلى منازلهم تحوطهم جدرانها المرتجفة. فظن الناس حينها بأن الشرعية ستعود إلى صنعاء بعد ليلتين ونهار.
مرت سنة وثلاث وخمس ونيف... لكن الشرعية آلفت رحلة الشتاء والصيف، تُحقق أرباحاً فلكية من قوافل الحروب ما يغنيها مليون مرة عن (حكم) فوق كرسي صنعاني عابر. فتحولت "عاصفة الحزم" إلى وباء ينثال على رؤوس المدن المحررة المسحوبة خلف عربة الاخوان السعوديين. حتى أن الناس انشغلوا عن أحلامهم وطموحاتهم بالبحث عن فكرة ملهمة تساعدهم على تفكيك لغز أداء المملكة.
من خليج أنطاليا إلى خليج عدن
بعد خمس سنوات من عمر اليمن المعصوف تبدو سياسة "مملكة الحزم" كأنها (تَنَك) قديم مليء بالشفرات والأموال في دهليز معتم. لهذا يدرك الناس الآن لماذا اصبح الكورال العسكري يصدح بأناشيد النصر للثورة الخامنئية من عواصم عربية، بغداد دمشق بيروت صنعاء. ويدرك الناس (بعد) كيف أن تركيا تزحف من خليج أنطاليا نحو خليج سرت ثم تتهيأ من خلال وكلائها للوثبة القارية الكبرى نحو جنوب الجزيرة إلى مسرح عمليات التحالف العربي (ذاته) بهدف وضع ضفتي خليج عدن داخل الجغرافيا الحيوية للمشروع الإمبراطوري الذي يصنع تدريجياً باسم الخلافة الإسلامية (الإفتراضية) شرقاً مملوكاً لا يقوى على مبادلة مصالحه مع العالم إلا من خلال الباب العالي.. وهذه الاخيرة هي الأشد فتكاً بالعقل السليم والتفكير الطبيعي! كيف لبلد مثل السعودية بأدواتها أن تساهم في تلك الوثبة العثمانية المحتملة من خلال دعمها إخوان اليمن حتى بعد أن بدأت طلائع إعلامهم الترويج "للنجدة التركية" من خارج وداخل المملكة ذاتها؟
اسطبل جحا
حالة الاغتراب التي تبدد الشخصية الاعلامية السعودية (النخبوية) تجعلها تعرف الكثير عن خفايا داونينج ستريت في لندن اكثر من معرفتها حول ادارة المملكة لملف الحرب في بلد جار مليء بالتعقيدات. فهم لا يرون بلادهم الا من خارجها ومن علاقاتها مع الغرب ومن مواقعهم المرفهة بالإمكانات التي تتيحها لهم الدولة.. يمارسون دورهم وفقاً للبروتوكول الصحفي التقليدي في تلقين الناس تحليلاتهم العامة منذ عقود ويربون النشء الجديد على رتابة اخبار "الشرق الاوسط" وزاوية كتاب الرأي بنفس اللغة والمقاصد، مدركين طبيعة المتلقي الذي يميل نحو الانحياز التأكيدي وتصديق الأفكار التي تتماشى مع قناعاته السابقة حيث لا يحتاج العقل أن يبذل جهد في سبيل استيعابها والتعاطي معها. وعلى أي حال فإن قادة الرأي و الإعلام يجيدون فن البقاء في الواجهة أينما تموضعوا، بعد أن تدربوا طويلاً.. كيف يصفقون لشِعْر تيمورلنك لكي لا يُساقوا إلى اسطبل جحا. أما (الآخرون اليوميون النابتون) هنا وهناك، داخل المؤسسات وخارجها فإن بعض أصواتهم اكثر وضوحاً لأنها تنبعث مباشرة من حناجر الخلايا الاعلامية التابعة لتنظيم الإخوان في السعودية ويبثون على نفس موجة أقرانهم الخليجيين واليمنيين.
ويبقى هناك البعض ممن يتبعون عقولهم المجردة وضمائرهم.. لكن ما تتركه اجتهاداتهم الفردية لا تتجاوز أثر نقش النسائم على التراب.
ولهذا يلزم القول أن أكثر شيء تحتاجه المملكة اليوم هو النقد بصوت عال وليس الطبطبة وإخفاء الضرر.