المستحيل هو ما لا يُمكن فعله طبقاً للحسابات المنطقية والبشرية، سواء كان ذلك بين التكلفة والعائد، أو عندما تكون كل الخيارات غير ممكنة، أو تكون متناقضة تماماً مع العلم وطبيعة الأشياء. ولكن المستحيل يصير وجهة نظر عندما يكون ممكناً نتيجة نوع آخر من الحسابات، أو أن العلم أتاح فرصاً واختيارات لم تكن موجودة من قبل، أو أن الطموح والعزيمة والصبر يمكنها أن تحقق أهدافاً كان مجرد التفكير فيها مستحيلاً، أو، في أقوال أخرى، ضرباً من الجنون. عنوان هذا المقال مأخوذ عن عبارة وردت في كتاب الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «قصتي: 50 قصة في خمسين عاماً» تلخّص إلى حد كبير مسيرة إمارة دبي؛ «الإمارة» في تطورها ودورها في إنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة، و«المدينة» التي خلقت وسط صحراء جدباء حضارة كاملة لها شخصيتها المتميزة، التي تضعها في مقدمة مدن العالم، خلال نصف قرن تقريباً. فوسط كثير من المآسي العربية التي انهارت فيها مجتمعات وفشلت فيها دول، وامتُهنت سيادة الأرض بأشكال متعددة من الغزو الأجنبي، فإن قصص النجاح تبدو نادرة واستثنائية.
ومناسبة الحديث كانت انعقاد «منتدى الإعلام العربي» في دورته الثامنة عشرة، الذي حضرت انعقاده الأول، وبعد ثمانية عشر عاماً تبدو معادلة المستحيل والممكن ظاهرة جلية، فليس من قبيل المعتاد أن يجتمع الصحافيون والإعلاميون العرب على مدى يومين للتركيز على قضايا وأمور تتعلق بالمهنة والمستقبل، وأن يكون التنظيم قائماً على الإيجاز، وعدم الاستطراد، والتركيز على الرسالة التي يود المرء أن يقدمها. كانت جلسات المنتدى لا تتعدى النصف ساعة، وفي الأغلب كانت عشرين دقيقة، النتيجة لم تكن هناك مطولات، ولا معلقات، ولا حكايات، وإنما مواجهة مع أهم القضايا التي تواجه الإعلام العالمي خلال هذه المرحلة من التطور. كان في الأمر نوع جديد من «العروبة»، فلم يكن المنتدى عن الصحافة والإعلام في دبي، أو حتى في دولة الإمارات العربية المتحدة، ولا حتى في الخليج، سواء كان هؤلاء في مجلس التعاون الخليجي، أو من هم خارجه في العراق، كان الموضوع عن الإعلام «العربي» من الخليج إلى المحيط.
ورغم أن المنتدى لم يتجاهل كليةً ما هو شائع في العالم الآن من توتر بين السلطة السياسية والإعلام، الذي باتت فيه الولايات المتحدة قصةً تُحكى كل يوم، وما هو حديث الساعة في الدول العربية حيث العلاقة بين السلطة والصحافة فيها كثير من التضاغط والتوتر، فقد كانت هناك جلسة تخصصت في الموضوع (الصحافة والسياسة) أدارها الإعلامي عماد أديب، وشارك فيها الأستاذ عبد الرحمن الراشد رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط» سابقاً، والدكتور وليد فارس المستشار السابق للرئيس دونالد ترمب في شؤون الشرق الأوسط، والدكتور عبد المنعم سعيد رئيس مجلس إدارة «المصري اليوم».
ولكن ذلك لم يكن هو الموضوع الرئيسي في المنتدى، فقد كان الحاضر والمستقبل حاملَيْن لما هو أخطر ويتجسد في ظهور ما يبدو وكأنه نوع من «الإعلام الجديد» ممثلاً في شبكات التواصل الاجتماعي وأدواتها من «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» و«يوتيوب»، وغيرها من الأدوات والمنصّات التي لم تعد تتحدث عن الآلاف أو مئات الألوف من القراء أو المشاهدين والمستمعين، وببساطة «المشاركين» و«المشتبكين» في الجدل والحوار والمناقشة والتعليق، الذي يبدأ بعدد محدود من الحروف، وينتهي بمدونات عميقة وكثيرة، وصور طريفة وغريبة، من ناحية الحجم الذي يمكن أن يُقاس بعدد الكلمات أو الحروف أو «البيكسل» أو التعليقات أو «اللايكات حباً وسخطاً».
في هذه السوق الإعلامية اللامتناهية الحدود لا توجد أسوار، ولا صفحات، ولا إدارة للتحرير، وبالتالي للرقابة والضغط والسجن في بعض الأحيان ممن لا تعجبهم «السياسة التحريرية»، وبتكاليف قليلة تعطى الفرصة لجموع من البشر لكي تكون حاضرة، وعلى مدار الساعة. وكأن كل ذلك ليس كافياً، فإن تهديد «الإعلام الجديد» لا يكتفي بالانتشار، وإنما بالنجومية أيضاً. فقد كان موجعاً لنجوم الإعلام القديم أن أفرداً من المشاركين في الوسائل الموضحة أعلاه تجاوز مشاهدوهم وقراؤهم والمستمعون لهم الملايين، وهي أرقام لا يحصل على مثيل لها إلا الفنانون (الـ«يوتيوب» الخاص بالفنان محمد منير والفنانة نانسي عجرم لأغنية «حارة السقايين» للفنانة شريفة فاضل حقّق أكثر من 63 مليون مشاهدة يوم انعقاد المنتدى)، أما الإعلاميون والصحافيون فإنهم في مكان قريب من السفح مقارنة بأهل القمة الجدد، الذين طالب البعض في المنتدى بضمهم إلى المنتديات المقبلة، وإعطائهم الجوائز أيضاً!
مشاركتي في هذا الحوار حول «الخطر» أو «الفرصة» الآتية من الإعلام الجديد قامت على نقطتين: أولاهما أنه من الضروري أن نتخلص من «الخضّة» المصاحبة لكل ما هو جديد، وذكرتُ كيف كانت هذه الخضة واقعةً في عالم كانت تقوم فيه المعرفة على الكتب إلى أن جاءت الصحافة التي مرّت على مدى قرون بتطورات تكنولوجية ومعرفية وإعلامية هائلة، وحدث مثيل لها مع ظهور الإذاعة ثم التلفزيون وتحوُّل كليهما من كيانات محلية أو إقليمية إلى كيانات «فضائية» «عولمية». التطور يعطي آفاقاً جديدة، ليس فقط لاتساع دائرة المشاركين الجدد، وإنما للمشاركين القدامى أيضاً. وثانيهما أن الإعلام الجديد ليس إعلاماً على الإطلاق، هو نوعية أخرى من عمليات إطلاق المشاعر والأحاسيس التي يمكن أن نجدها على منصات التواصل الاجتماعي أو نجدها في الشارع، كما حدث في «الربيع العربي»، أو جرى في فرنسا لأصحاب البزات الصفراء، أو في «وول ستريت» في الولايات المتحدة. وبالتالي فإن الإعلاميين والإعلام ليسوا عنوان التحدي الجديد، والأرجح أن عنوانه ربما يكون أهل الفن الذين تزدهر لديهم المشاعر والأحاسيس، أما الإعلام والصحافة أياً كان التوقيت، فإن وظيفتيهما الأساسيتين «التفكير» و«العلم»، وكلاهما محطة على طريق «الحقيقة».
محاولة اختراق هذه الإشكاليات المعقدة هي قصة دبي، ودولة الإمارات، فبداية كتاب «قصتي» كانت «المسبار» الذي تقرر إرساله إلى المريخ لكي تكون الإمارة واقفةً في صف واحد بين الدول المتقدمة، وكان الحديث عن نجاح هذه المحاولة خاتمةَ الكتاب حيث الإصرار قاطع على وصول المسبار إلى الكوكب الأحمر في عام 2021، في العيد الخمسيني أو اليوبيل الذهبي لدولة الإمارات، فالرسالة هي أن التقدُّم لا يكون إلا بمواجهة الأسئلة الصعبة، وهي الأسئلة التي يطرحها مَن سبقونا إلى الصفوف الأولى من دول العالم. هذه المواجهة ليس فيها خوف أو وجل وإنما شجاعة وعزم وإصرار على أن الإجابات سوف تكون ممكنة عندما نأخذ مثل هذه الأمور بالجدية التي تستحقها. لحسن الحظ أن هذه الموجة المقبلة من دبي لها انعكاساتها في بلدان عربية أخرى مضافة لمبادراتها الذاتية في «رؤى» للإصلاح والتنمية، وهذه ربما تكون قصة أخرى.