لا وجود لقوانين تنظم السير في الفضاء
غنائم مغرية تدفع بالقوى العظمى إلى التسابق نحو التسلح الفضائي في ظل قصور قانوني لا يحدد جهة يُحتكم إليها عند حدوث انتهاكات.
عرفت الإنسانية منذ القدم شتى أنواع الحروب، التي تحوّلت تدريجيا من صراع مباشر بين الإنسان والطبيعة إلى تنافس واحتدام بين البشر استعملت فيه جميع أنواع الأسلحة الفتاكة، ما حتّم على العقل البشري ضرورة التفكير في أطر قانونية تؤطّر وتنظم لا فقط سبل التعايش بين الناس، بل أيضا تحدد ما هو مُتاح وما هو محظور خلال فترة الحرب. وبفضل التطور الكبير للابتكارات الإنسانية، لم تعد القوانين الوضعية حكرا على ما يقع فقط على سطح الأرض بل تم تكييفها وجعلها تشمل أيضا عالم الفضاء الذي بات في العقود الأخيرة مجالا خصبا ومغريا لإتمام أنواع جديدة من معارك هادفة في الأصل إلى السيطرة على عالم الأرض خاصة بعد تصاعد وتيرة الاتهامات بين واشنطن وموسكو وبكين في هذا المجال.
أفرز تطور العقل البشري، إنتاج منظومات تحدد العلاقات بين الناس والدول تفاديا للصراع أو محاولة لتأطيره، فكان القانون إحدى أهم الوسائل للتنظّم وترتيب الأمور لما تضمّنه من مجموعة قواعد ترتّب أواصر المُجتمعات والدول والشعوب، لكن التطور التكنولوجي اللافت في القرون والعقود الأخيرة جعل من معاجم القانون لا تقتصر فحسب على تنظيم علاقات الدول أو تسطير حدودها أو التحكيم في خلافاتها، حيث تمّ التشريع لقوانين أخرى خاصة بالفضاء الخارجي منذ عقود خلت.
رغم أن قوانين الفضاء تنصّ على وجوب الالتزام بجملة من القواعد تفيد بأن عالم الفضاء هو مساحة مشتركة ولجميع البشر الحق في استكشافه، فإنّ تطوّر وتيرة الصراعات التكنولوجية بين الدول العظمى والرائدة في هذا المجال كالولايات المتحدة وروسيا والصين ينذر بمخاطر كبرى تهدّد السلام في العالم.
هذا الجدل المتجدّد، أشعلته في السنوات الأخيرة تأكيدات روسيا بأنها تخطط للخروج من الإنترنت بعد أن تواترت أخبار تفيد بأنها تعمل على تدشين شبكة خاصة بها، كجزء من حرب الفضاء الإلكتروني مع الولايات المتحدة.
وتسعى موسكو وفق رواياتها إلى إطلاق شبكة إنترنت وطنية خاصة بها، لحماية المستخدمين الروس من الهجمات الإلكترونية الأميركية المزعومة.
الولايات المتحدة تبدي شكوكا قوية إزاء سعي روسيا إلى الحصول على أسلحة فضائية جديدة، من بينها نظام ليزر محمول لتدمير الأقمار الصناعية في الفضاء
كل هذا جعل خطط إنشاء معاهدة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين تُجابه برفض من واشنطن في مناسبتين، ما جعل وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يقول في موفّى عام 2018 خلال مؤتمر في كلمة بمؤتمر للأمم المتحدة عن نزع السلاح، يناقش اتفاقية جديدة لمنع سباق التسلح في الفضاء الخارجي “لا نسمع سوى أعذار، إن الأميركان يدّعون أن تطوير المعاهدة مسألة طويلة الأجل”.
فيما تشدّد الولايات المتحدة على إبداء شكوك قوية إزاء سعي روسيا إلى الحصول على أسلحة فضائية جديدة، من بينها نظام ليزر محمول لتدمير الأقمار الصناعية في الفضاء، فضلا عن إطلاق قمر صناعي جديد للمراقبة يعمل بطريقة ”غير طبيعية“.
وقالت إليم بوبليت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الحد من التسلح في نفس المؤتمر الأممي، إن سعي روسيا إلى امتلاك قدرات فضائية ”أمر مقلق“.
عوامل مغرية
أكدت أن لبكين وموسكو مساعي حثيثة لعسكرة الفضاء، بقولها “إن الولايات المتحدة لا يمكن أن تثق في روسيا بينما “تتفاخر بتطوير وإكمال مجموعة واسعة من أسلحة الفضاء”، مضيفة “من الصعب تحديد صحة قلق الصين حول سباق التسلح في الفضاء ودعمها للحد من الأسلحة الفضائية”.
وتستدعي حدة الخلافات بقوة وجوب استحضار الأطر القانونية لمجال الفضاء، حيث تنصّ كل معاهدات الفضاء الخارجي على أن الفضاء مفتوح للاستكشاف والاستخدام من قِبل جميع الدول.
وتشدّد الاتفاقيات في الوقت نفسه على أنه يجب استخدام الفضاء حصرا في الأغراض السلمية. ولا يحق لأي دولة وضع أسلحة نووية في المدار، أو حتى تأسيس قاعدة عسكرية هناك، كما لا يحق لها ادّعاء أي ملكية للأراضي في الفضاء، لكن بوادر توسّع دائرة الصراع بين القوى العظمي يشي بأن حربا فضائية واسعة النطاق ستندلع في العقود المقبلة، ربما بالنظر إلى عدم احترام أي طرف للاتفاقيات والقوانين المنظمة لعالم الفضاء.
وتتفاقم حدة الحروب الكلامية بين القوى العظمي رغم وجود هذه الأطر القانونية، ليبقى الوضع فوضويا إلى حد قد يؤدي إلى عدم تقدير التداعيات التي قد ترافق عسكرة الفضاء.
وتأتي النزعة نحو عسكرة الفضاء في وقت تؤكد فيه كل الاتفاقيات على أن الفضاء لا يخضع لسيادة أي دولة، فأسس قانون الفضاء تقوم على خمس اتفاقيات للأمم المتحدة.
ومن أهم المعاهدات هي اتفاقية الفضاء التي تعود لعام 1967، والتي تنظم على سبيل المثال حصول كل دولة على إمكانية الوصول للفضاء بحرية، وتمنع أي دولة من إعلان استحقاقها مناطق في أجسام سماوية أخرى.
وصادقت أكثر من 100 دولة على اتفاقية الأمم المتحدة للفضاء وأصبحت سارية في ألمانيا منذ 1971، أما الاتفاقية الخاصة بالقمر والتي تعود إلى عام 1979 فتهدف إلى إعلان القمر وغيره من الأجسام السماوية الأخرى إرثا مشتركا للبشرية، غير أن عدد الدول التي وقّعت على هذه الاتفاقية لم يصل حتى الآن إلى 20 دولة، وذلك لأسباب، من بينها الاهتمامات الاقتصادية المحتملة باستخراج المواد الخام من الفضاء.
التسابق نحو السيطرة على الفضاء أجّجته عوامل مغرية منها اكتشاف أنه يحتوي على مواد خام، فالأجرام السماوية تبشر بوجود مواد خام على سطحها، منها على سبيل المثال معادن نادرة.
ولتأمين مصالحها قامت كلّ من الولايات المتحدة ولوكسمبورغ باعتماد قوانين تعطي من خلالها وعدا للشركات التي يمكن أن تقدم على التنقيب عن المعادن في الفضاء، بامتلاك الخامات التي تكتشفها في هذه الأجرام، وهو ما يعتبره هوبه “مخالفا للقانون”، مضيفا “فهما لا تستطيعان إصدار قوانين فقط على المناطق التي لها حق التصرف فيها”. ولا يمكن لأجسام سماوية أخرى وفقا للاتفاقية الدولية، أن تخضع لسيادة دولة.
وتوظف الدول المتصارعة عدم وجود قوانين تخصّ مسألة النفايات، حيث لا توجد أي اتفاقية تلزم الدول التي تغزو الفضاء على تجنّب النفايات الفضائية، أو حتى التخلص منها.
ورغم تزايد الوعي بمشكلة النفايات، حيث طوّرت وكالة الفضاء الأوروبية “إيسا” معايير فنية واعتبرت التزام الدول بهذه المعايير شرطا لمنحها ترخيص إطلاق أجهزة في الفضاء فإن ذلك لا يمنع الدول من عدم احترام ذلك.
ويعكف خبراء من خلال ورشة عمل “إيسا”، في مدينة دارمشتات، على وضع قواعد للتخلّص من حطام الأجهزة الفضائية.
لكنّ مشكلا آخر يعترض هذه المسألة “حيث لا توجد جهة بعينها مسؤولة عن التخلّص من النفايات في الفضاء”، حسب ما أوضح هوبه، مضيفا أن اعتماد ضوابط قانونية بهذا الشأن يعتبر تحديّا كبيرا لأن على هذه الضوابط أن تحدّد وبأثر رجعي المسؤولية عن السلوكيات التي كان يسمح بها حتى الآن.
ويضيف “على أي حال فإن المؤسسات الفضائية اتفقت وفقا لبيانات ‘إيسا’، وبشكل غير ملزم قانونا على الإبقاء على المدارات شديدة الأهمية خالية من النفايات الفضائية”.
إشكال آخر، يؤكد ربما قصور القوانين المعنية بمجال الفضاء ويتمثّل بلا شك في مسألة تنظيم المركبات الفضائية أو ما يشبه في قوانين الأرض القواعد المرورية.
أولوية المرور في الفضاء
هنا تطرح عدة أسئلة من قبيل من الذي عليه أن يعطي الآخرين أولوية المرور عندما تكون مركبتان فضائيتان في مسار تصادمي؟
ويؤكد الخبير الألماني أن القطاع “شهد تطورا صحيّا”، وأشار إلى أن 95 بالمئة من التصادمات التي يمكن أن تكون خطيرة تحدث بين أجسام غير نشطة في الفضاء، مثل بقايا أقمار اصطناعية أو أقمار اصطناعية أصبحت بلا محركات، مما يجعل السؤال عما إذا كانت هناك أولوية مرور في الفضاء غير مطروحة.
وتلزم اتفاقات الأمم المتحدة الدول بتحمّل المسؤولية عن الأضرار التي تنشأ نتيجة أنشطتها الفضائية، وفق خبير “إيسا” في قانون الفضاء، ألكسندر سوتسيك، الذي قال “في حالة وقوع أضرار في الفضاء، مثل تصادم قمرين اصطناعيين على سبيل المثال، يتم تطبيق القاعدة التي تعرف بالمسؤولية عن الخطأ”، وهو ما يعني أنه في حالة ثبوت مسؤولية دولة ما عن وقوع تصادم فإنها تتحمّل الأضرار الناتجة عن هذا التصادم.
وأضاف سوتسيك “في حين أنه في حالة حدوث أضرار على الأرض، كأن يسقط قمر اصطناعي لم يحترق بشكل كامل، فتسري قاعدة تحمّل الطرف المسؤول نتائج الخطر الذي سببه الضرر”، وهو ما يعني تحمّل الدولة التي يعود لها القمر الساقط الأضرار الناتجة عن السقوط، وذلك لأن مجرد إطلاق القمر في الفضاء يعني أنه يمثّل خطرا عاما.
تتفاقم حدة الحروب الكلامية بين القوى العظمي رغم وجود هذه الأطر القانونية، ليبقى الوضع فوضويا إلى حد قد يؤدي إلى عدم تقدير التداعيات التي قد ترافق عسكرة الفضاء
يخلو الفضاء بناء على اتفاقيات الأمم المتحدة من التواجد العسكري لأي دولة، أي أنه لا يجوز وضع أسلحة في مدار الأرض أو في أيّ جرم سماوي آخر.
ورغم ذلك فهناك قلق متزايد من حدوث سباق تسلّح، حيث تدفع الحكومة الأميركية بخططها الرامية إلى إنشاء قوات مسلحة خاصة بها في الفضاء.
وأصبحت الضوابط الموجودة حاليا غير مواكبة للعصر. حيث قدمّت روسيا والصين مسودة اتفاقية لمؤتمر الأمم المتحدة لنزع الأسلحة في جنيف عام 2014، وهي المسودة التي تحظر أسلحة بعينها.
ولكن، رغم تطوير الأسلحة يتم بشكل متسارع، فإن الكثيرين يعتقدون بأن هذه الاتفاقية غير كافية، لأسباب، منها إمكانية استخدام أقمار اصطناعية غير مؤذية أصلا، كأسلحة، وذلك في حالة توفر سوء النية.
رغم كل هذه المخاوف من تحوّل الفضاء إلى مجال لتدمير الأرض، فإنّ القوانين الدولية تمنح أيّ دولة حق إقامة محطات فضائية في مدار الأرض وعلى الأجرام السماوية لأغراض سلمية، مع الالتزام بمبدأ الانفتاح المتبادل، أي ليس من حق أي دولة عزل محطتها بشكل تام أمام دول أخرى.
لكن هنا تطرح أسئلة من قبيل، كيف تستطيع الشركات الحصول على حقوقها؟
ولا توجد حاليا محكمة للفضاء. وتستطيع الدول، في حالة حدوث انتهاكات لاتفاقيات الأمم المتحدة اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، حسبما أوضح زوتسيك.
وتوجد حالات بعينها تستطيع فيها الشركات اللجوء للمحاكم المدنية لمقاضاة جهة ثالثة، شريطة أن يكون هناك ضابط قانوني ينظم حالة النزاع.