كشف مخبأ زعيم طالبان محرج لواشنطن
لا يقل سحب القوات الأميركية من أفغانستان على ضوء ما ستفرزه المحادثات بين واشنطن وحركة طالبان أهمية عمّا حصل من متغيرات في سوريا كانت لها تداعيات كبيرة في ما يتعلق بإعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة، لكن وإن بدت الأطراف المتصارعة لحفظ مصالحها في سوريا معلومة، فإن المسألة الأفغانية تبدو أكثر تعقيدا، حيث تتشابك مصالح الدول لكن لا تظهر سوى تحركات واشنطن رغم أن جميع الدول -بما في ذلك القوى التقليدية كروسيا والصين أو الدول المجاورة لأفغانستان- تسعى بدورها جاهدة للحصول على موطئ قدم في مرحلة ما بعد ترويض حركة طالبان.
رغم أن مهمة إقناع حركة طالبان من قبل واشنطن بوقف إطلاق النار في أفغانستان والحوار مع حكومة كابول تبدو مهمة صعبة بالنظر إلى العديد من العوامل التاريخية التي جعلت من الحركة مثقلة بإرث متطرف لا يقوم سوى على الحرب، فإن الخطوة الأميركية رغم اختلاف التقييمات بشأنها تُفهم عمليا على أنها سعي جاد للقيام بتسوية سياسية بعد 18 عاما من الحرب.
منذ نهاية عام 2018، كلفت الولايات المتحدة مبعوثها زلماي خليل بالتفاوض مع حركة طالبان في محادثات ركزت -رغم تبادل التهم في الأيام الأخيرة بين طرفي التفاوض بشأن وقف إطلاق النار في أفغانستان- على خمسة ملفات أساسية قد تفضي إلى اتفاق سلام، وهي إنهاء الحرب المستمرة منذ 2001 ومكافحة الإرهاب وانسحاب القوات الأميركية وفرض حوار مع حكومة كابول والتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
ويشي نسق المفاوضات بين واشنطن وحركة طالبان خاصة حول سحب القوات الأميركية بأن الولايات المتحدة معنية وحدها بما سترسمه من خارطة جديدة في منطقة آسيا الوسطى بعد إجبار طالبان على السلام، إلا أن ما تظهره تحركات المفاوضات المعلنة لا يخفي أيضا مساعي دول أخرى -وخاصة الصين وروسيا أو الدول المجاورة لأفغانستان- للمساهمة في تشكيل مشهد جديد يحفظ مصالح كل بلد.
التنافس حول الملف الأفغاني لم يكن بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن عزمه سحب قوات بلاده في مدة تتراوح من ثلاث إلى خمس سنوات، مخفيا خاصة مع الحليف الأوروبي الذي شارك أيضا بنشر قواته قرابة 17 سنة، لذلك يزعجه ما قد يترتب على المفاوضات مع حركة طالبان.
عمق الخلافات الأوروبية الأميركية، أكّده الاثنين وزير الخارجية الألماني مايكو ماس بدعوته برلمان بلاده إلى الموافقة بأغلبية كبيرة على تمديد مهمة الجيش الألماني في أفغانستان والتي ستنتهي في 31 مارس الجاري.
وذكر ماس أن مغادرة أفغانستان الآن تعني أن كل ما تم بناؤه قد يتداعى بسرعة بالغة، معربا في المقابل عن تفهمه لوجود أسئلة كثيرة حول مستقبل أفغانستان عقب نحو 18 عاما من المهمة.
تشابك المصالح والأطراف في ملف التسوية الأفغانية تطرقت إليه أيضا صحيفة “أف.بي” الأميركية بتأكيدها في تقرير لبارنت روبن أنه بالإضافة إلى الأطراف الأساسية في الصراع، يتعين على الجهات الإقليمية الأخرى، خاصة باكستان، أن تعمل على تحديد اتفاقيات واضحة، حيث دعمت باكستان طالبان أثناء وجودها في السلطة واستضافت قيادتها وقواعدها اللوجستية منذ أن طردتها القوات الأميركية من أفغانستان.
ودعمت باكستان أنشطة طالبان الإرهابية للضغط على واشنطن وكابول في ما يتعلق بالوجود العسكري الأميركي في أفغانستان، والذي يمكن أن يهدد باكستان وخططها النووية، ما أدى بكابول إلى رفض الاعتراف بالحدود الدولية مع باكستان، المعروفة باسم خط ديورند، وتعطيل الطريق التجاري والعبور إلى آسيا الوسطى عبر أفغانستان، والذي يمكن لباكستان الحصول عليه في أي وقت من خلال السماح لأفغانستان بالوصول إلى الهند -وهو ما رفضته حتى الآن- والحد من الوجود الهندي في أفغانستان.
وتشير الصحيفة إلى أن أفغانستان وباكستان حققتا تقدما في هذه القضايا، ولاسيما عبر المحادثات التي توسطت فيها الصين، والتي شاركت فيها بكين لأنها ترى في عدم الاستقرار بباكستان وأفغانستان تهديدا لمشروع البنية التحتية الهائل والعابر للقارات والمعروف بـ”مبادرة الحزام والطريق”.
عجّلت هذه الاختلافات بدخول طرف ثالث وهو دول الخليج، حيث جعلت الأزمة المالية التي تعرضت لها باكستان هذه الدولةَ عرضة للضغط، فبعدما رفضت شروط صندوق النقد الدولي الصعبة من أجل الإنقاذ لم يعد لها أي بديل سوى اللجوء إلى دول الخليج العربي أملا في الحصول على المساعدة. وحصل كل هذا في ديسمبر 2018، حيث وعدت السعودية بتقديم 6 مليارات دولار. كما خصصت الإمارات العربية المتحدة في نفس الوقت 3 مليارات دولار لباكستان.
أدت هذه العوامل إلى أن يضغط الجيش الباكستاني على قادة طالبان للانضمام إلى عملية تسوية بناء على طلب خليل زاد، الذي عينه ترامب مبعوث الولايات المتحدة الخاص لدى أفغانستان.
تتطلع روسيا أيضا إلى لعب دور متقدم في عملية التسوية، ويرجح تقرير صحيفة “أف.بي” أن تتحول موسكو إلى شريك مع الولايات في هذه العملية، حيث بدأت موسكو في تصديق أن الولايات المتحدة لم تعد مصرة على احتكار النفوذ في أفغانستان.
وفي وقت سابق قال مدير الإدارة الثانية لشؤون آسيا بوزارة الخارجية الروسية ومبعوث رئيس الدولة الخاص إلى أفغانستان، زامير كابولوف، إنه نصح الحكومة الأميركية بعدم تكرار الأخطاء السوفييتية في أفغانستان.
وفي ديسمبر 2017، أطلق كابولوف عملية للتسوية السياسية في أفغانستان كتحد لواشنطن وما تعتبره موسكو حكومة عميلة للولايات المتحدة في كابول، في حين ساعدت روسيا الأميركيين على اكتساب قواعد في آسيا الوسطى لدخول أفغانستان عام 2001، وكانت تتوقع أن ينتهي الوجود العسكري الأميركي في غضون خمس سنوات.
وظل هدف موسكو لدى تنسيق عملية السلام مبنيا على أسس التوافق بين روسيا وإيران وباكستان والصين، والذي من شأنه أن يؤدي إلى انسحاب القوات الأميركية واحتواء نفوذها في أفغانستان.
وكانت واشنطن قد رفضت دعوة روسيا إلى المشاركة في الجولات الأولى من عملية موسكو. وبعد تعيين خليل زاد، أرسلت الحكومة الأميركية للمرة الأولى دبلوماسيا للمشاركة في جولة نوفمبر 2018، والتي حضرتها وفود من طالبان ومجلس السلام الأعلى التابع للحكومة الأفغانية.
أدى اجتماع ديسمبر 2018 بين خليل زاد وكابولوف في موسكو إلى مناقشة المزيد من التعاون. وبدلا من الدعوة إلى جولة أخرى من عملية موسكو للطعن في كل من الحكومتين الأميركية والأفغانية، استخدمت روسيا جمعية أفغانية مقيمة في روسيا لعقد اجتماع أفغاني في موسكو في فبراير من نفس العام. وفي هذا الاجتماع، التقى مكتب طالبان السياسي بوفد أفغاني رفيع المستوى برئاسة حامد كرزاي.
وتعد الهند بدورها من الدول المعنية بالمسألة، حيث شارك المسؤولون الهنود في جولة نوفمبر 2018 من عملية موسكو، وكانت المرة الأولى التي تنضم فيها الهند إلى اجتماع مع ممثلي طالبان.
ولطالما تبنت روسيا وإيران نفس موقف الهند ضد طالبان، لكن مع تحول نظرة هذه الدول إلى حركة طالبان وإمكانية ترويضها أصبحت الهند أكثر عزلة.
وأيدت الهند بقوة إستراتيجية ترامب، ولكنها تجاهلت القيود الأميركية على تعاملاتها مع إيران وروسيا، كما أنها أعادت تقييم علاقتها مع الصين، من خلال مشاريع في أفغانستان لأنها تشعر بالقلق من تزايد النفوذ الباكستاني في أفغانستان مع أي عملية تشمل حركة طالبان.
كما ضغطت الصين على باكستان للتعاون معها عبر رفض إنقاذها من أزمة ميزان مدفوعاتها وانحيازها المتزايد لأفغانستان في النزاعات الثنائية بين أفغانستان وباكستان.
ووفق التقرير لا تهتم الصين بثروات أفغانستان. وفي حين تعارض الصين القواعد الأميركية الدائمة في أفغانستان، كانت متخوّفة كثيرا من أن تنسحب الولايات المتحدة بسرعة، ما سيؤدي إلى عدم الاستقرار. ومن المرجح أن تكون الصين مشاركا رئيسيا في تنفيذ وإدامة أي اتفاق سلام أفغاني.
ومع تشابك مصالح كل هذه الأطراف، فإن تحقيق الاستقرار في أفغانستان حتى بعد التوصل إلى اتفاق بين طالبان وحكومة كابول، وانسحاب القوات الأميركية، يتطلب درجة من الإجماع الإقليمي حول قضايا أمن أفغانستان، ومن الخطوات التي يمكن لجميع أصحاب المصلحة تأييدها الوجود العسكري الدولي الذي سيقدمه الممثلون الدوليون لأفغانستان.
ويخلص التقرير الأميركي إلى أنه في الوقت الحالي لا يوجد مسار إقليمي يتوافق مع محادثات الدوحة، حيث لا يمكن للولايات المتحدة والحكومة الأفغانية أن تقوداه. إذ تبدو منظمة شانغهاي للتعاون المنظمة الإقليمية الوحيدة ذات النطاق المناسب. إلا أن المنظمة لا تزال ضعيفة دبلوماسيا، وتعتبرها الحكومة الأميركية بمثابة واجهة لروسيا والصين.
ويرجح أن بإمكان منظمة التعاون الإسلامي أن تضيف شرعية للاتفاق مع طالبان، لكنها عاجزة على أرض الواقع، في وقت أظهرت فيه كل من أفغانستان والولايات المتحدة وروسيا ترددا في التخلي عن مصالحها السياسية في هذه القضية الحساسة.