النفوذ المتزايد أبعد من سوريا
رسمت جولة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ملامح النفوذ الذي تستهدفه موسكو في الشرق الأوسط على خلفية تراجع استثنائي للنفوذ الغربي عموما والأميركي على وجه الخصوص.
وتستفيد موسكو من حالة غريبة هي أن النفوذ الغربي تراجع بتأثيرات إيرانية وتركية لتستفيد روسيا استراتيجيا من الأمر، ويصبح الرئيس فلاديمير بوتين، قيصر روسيا الصاعد، صاحب النفوذ الأبرز في الشرق الأوسط.
وظهر جليا أن الدول التي زارها لافروف كانت مواقفها أقرب إلى التفاعل مع المقاربة الروسية لقضايا المنطقة أكثر من تفاعلها مع جولة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في يناير الماضي. ويعود هذا إلى شعور دول المنطقة بأن روسيا تحولت إلى قوة توازن حقيقي، وأنها تبحث عن علاقات مبنية على شراكات متعددة الأوجه، فيما تستمر الإدارة الأميركية الحالية بنفس الأسلوب القديم الذي يؤسس لعلاقات تبعية لا تراعي مصالح الطرف الآخر.
ولم تقطع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى الآن، مع مربع الارتباك الذي أسست له استراتيجية إدارة سلفه باراك أوباما، ما فسح المجال لصراع أجندات بين قوى أخرى إقليمية ودولية لملء الفراغ الذي خلفته واشنطن في الملف السوري على وجه الخصوص.
واستفادت روسيا من تخبط إدارة أوباما، وكذلك من انشغال الغرب بقضاياه الخاصة مثل صعود الشعبوية وهيمنة الأحزاب والتيارات اليمينية على الانتخابات، وكان أبرزها ما انتهت إليه الانتخابات الأميركية بصعود ترامب وخطابه الصدامي تجاه حلفاء استراتيجيين للولايات المتحدة خاصة في الخليج، وهو ما أثار حالة من الغموض في العلاقة بين واشنطن وأحد أبرز شركائها في المنطقة، أي السعودية.
وتزامن صعود ترامب مع التغيرات النوعية التي تشهدها السعودية الجديدة، على مستوى الإصلاحات الداخلية وكذلك إعادة ترتيب علاقاتها الخارجية وفق مصالحها وأمنها القومي، وهو ما أدى بالرياض إلى تسريع خيار تنويع الشركاء الاقتصاديين والعسكريين، وفتح الباب أمام التفاعل مع روسيا كقوة توازن في السياسة الإقليمية، ليس فقط بمواجهة الضغوط التقليدية لدوائر النفوذ الأميركي والتي تستمر باللعب بملفات ذات بعد حقوقي ضد السعودية، ولكن أيضا بوجه التمدد الإيراني والتسلل التركي إلى قضايا المنطقة.
ونجحت المقاربة الروسية للملف السوري في إقناع دول عربية مختلفة بجدواها، كونها تمنع تفكك سوريا وتحارب الإرهاب، وتنتهي إلى ضرورة ترك القرار بيد السوريين ليختاروا نظامهم المستقبلي، وخاصة دعوة القوى والميليشيات الأجنبية إلى مغادرة الأراضي السورية، وهو ما عبر عنه لافروف بكل وضوح في زيارته الأخيرة للإمارات.
وشدد لافروف خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد في أبوظبي، على أن موسكو تعارض الوجود غير الشرعي للقوات الأجنبية على أراضي الآخرين. وهذا التصريح كان يهدف، وبشكل قاطع، إلى طمأنة دول الخليج إلى أن روسيا لن تسمح ببقاء إيران أو الميليشيات الموالية لها في سوريا.
وتكون روسيا بهذه الخطوة العملية قد بددت مخاوف الدول العربية، وفتحت أمامها الباب واسعا للعودة إلى سوريا من بوابة دعم الانتقال السياسي المرتقب، ورفعت عنها الحرج الذي رافق النقاش الخاص بشأن استعادة دمشق لمقعدها في الجامعة العربية قبل قمة تونس المقررة نهاية مارس الجاري.
وإذا كان وزير الشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير قد قال إنه من المبكر للغاية معاودة فتح سفارة لبلاده في دمشق دون إحراز تقدم في الانتقال السياسي، فإن تصريحات الشيخ عبدالله بن زايد قد عكست مزاجا عربيا أوسع بضرورة أن يكون هناك دور عربي في سوريا سواء أكان هذا الدور سياسيا أو دور استقرار أو دورا أمنيا في مواجهة “زيادة النفوذ التركي والإيراني وغياب الدور العربي”.
ولم يسهل التخبط الذي خلفته استراتيجية أوباما فقط تعبيد الطريق أمام نفوذ روسي متعاظم في المنطقة، ولكن أيضا اجتراء حلفاء تقليديين لواشنطن عليها، وظهورها في وضع العاجز عن الرد خاصة بمواجهة لي الذراع الذي يبديه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ملفات متعددة خاصة ما تعلق بشراء منظومة صواريخ روسية متطورة بالرغم من كون تركيا ملزمة كعضو في حلف الأطلسي بأنظمة الحلف.
وبدا أن الرئيس الروسي قد نجح في توسيع الهوة بين الدولتين الوازنتين في حلف الناتو، فقد شجع تركيا على التمرد لكن مع وضعها تحت ضغط دائم خاصة ما تعلق بمكافحة الإرهاب في إدلب.
ووجدت واشنطن نفسها بين خيارين كلاهما صعب، فإذا مارست ضغوطا شديدة على أردوغان فقد تخسر حليفا استراتيجيا، وإذا صمتت عن تحديه لها فستشجع حلفاء آخرين على التمرد.
وانضم وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، إلى سباق تحدي واشنطن واستفزاز مسؤوليها حين أعلن الجمعة أن منصات صواريخ أس-400 سيتم نشرها بداية من أكتوبر القادم وأن بلاده تعمل حاليا على رسم خارطة انتشارها.
وحذرت صحيفة التايمز البريطانية في تقرير لها الجمعة من أن ميل أنقرة إلى موسكو سيعني ببساطة أن أردوغان يدعو بوتين إلى شق حلف الأطلسي الذي خدم تركيا، مشددة على أن بوتين لا يريد الخير لأنقرة، وإنما هدفه تخريب التضامن بين دول الناتو.
وتعتقد الصحيفة أن موقف الرئيس التركي أملته الظروف السياسية الداخلية فهو مقبل على انتخابات محلية هذا الشهر، ويريد أن يظهر بمظهر القائد القوي، لافتة إلى أن ميله إلى موسكو ليس من أجل نظام الصواريخ بقدر ما هو من أجل سوريا، إذ يمكن أن يذعن لطلبات الناتو ويتخلى عن أس-400 لكن مقابل أن يطالب الولايات المتحدة بالتخلي عن مظلتها للأكراد في سوريا.
ويعتقد محللون سياسيون أن روسيا لم تعد ماسكة فقط بمفاتيح الملف السوري، بل إن نفوذها أصبح أبعد من ذلك إذ صارت قادرة على منافسة واشنطن في مواطن نفوذها التقليدية في المنطقة، ما سيدفع إدارة ترامب إلى مراجعة استراتيجية التفاعل مع حلفائها والتخلي عن خطاب الإدارات السابقة القائم على إعطاء الدروس.