محاولات لاستعادة مكانة باتت متراجعة
بدأ الأزهر في اتباع توجه جديد برز مع عملية التجديد والتطوير التي يعرفه رواقه، تعتمد نقاش الأفكار والتحاور بشأنها، وكانت ندوة عالم الدين المغربي مصطفى بن حمزة نموذجا لرغبة المؤسسة الدينية المصرية في التفاعل مع مشكلات المجتمع الدينية، ولطرح وجه جديد لعلماء الدين يقوم على الانتصار للعلم وإثراء قيم الحوار والمعرفة والتسامح والانفتاح على الآخر. فالأزهر في نظر الكثيرين يتحمّل مسؤولية مباشرة عن انتشار التطرّف، بسبب مناهجه القديمة والفتاوى الغريبة أو تلك التي تنتمي إلى عصر آخر وتصدر عنه من حين لآخر.
“المعرفة سلطة، كما يقول كوبرنيكوس”، بهذه العبارة دشّن العالم المغربي ورئيس المجلس العلمي بمدينة وجدة المغربية، مصطفى بن حمزة محاوراته مع طلبة وعلماء الأزهر والمشاركين في رواقه (الأزهر) بالقاهرة، وطرح نموذجا مغايرا للندوات الدينية التي ألفها الناس، ورفع بقوة لواء المحبة والتسامح في مواجهة الخصام والتطرّف.
شدّد بن حمزة، في الندوة برواق الأزهر، على أهمية العلم باعتباره صمّام الأمان ضد تيارات التطرّف، مؤكدا أن حَمَلة العلم هم فقط القادرون على الوقوف بثبات في وجه تيارات الغلُوّ والإرهاب. وقال إن الإسلام دين ملتحم بالمعرفة، وعندما يتعلّق الأمر بالحديث في الدين فنحن في حاجة إلى المعرفة والتخصّص.
أشار بن حمزة إلى أن الدول الإسلامية تعاني من خلل كبير في التعامل مع النصوص بسبب كثرة “المتحدثين في الدين بغير علم”، الذين يسارعون إلى تفسير النصوص دون أن يكون لديهم العلم الكافي لذلك، مؤكدا على أن من لا تتوفر فيه المؤهلات العلمية المتخصصة والضرورية لن يأتي بشيء صحيح، وستوجد في ما يقدّمه ثغرات كبيرة.
الخط الجديد لرواق الأزهر، الذي ينظم ندوة في الجامع العتيق، كل اثنين بعد صلاة المغرب، وتمتد لأكثر من ساعتين، بدأ في نهاية يناير الماضي مع تولّي عبدالمنعم فؤاد عميد كلية العلوم الإسلامية للوافدين مسؤولية الإشراف خلفا للشيخ محمد مهنا.
الرواق مصطلح تاريخي يعني أحد أضلاع المسجد المسقوفة، وقد عرفت في الأزهر أروقة للدارسين من طلاب العلم، أبرزها رواق المغاربة ورواق الشوام.
بدت ندوة مصطفى بن حمزة، والذي قُدّم للجمهور باعتباره أحد العلماء المتميزين في مواجهة فكر التطرّف الديني، وله أطروحات قوية في دحض أفكارهم، مختلفة كثيرا عن الندوات التي تنطلق كمحاضرة تلقين يبقى فيها الجمهور مستمعا دون تفاعل أو دخول في مناقشات مع المحاضر.
يمكن القول إن فؤاد، الذي يُشرف على ندوات الرواق الآن، يختلف في توجهاته وتصوراته وهيئته عن علماء الأزهر المعتادين، الذين يصرّون على ارتداء الجبة والعمامة ويكسو التجهّم والغضب وجوههم في كثير من الإطلالات الدينية.
على خلافهم، يحمل الرجل وجها بشوشا ضاحكا، حليق اللحية، ويرتدي ثيابا مدنية أنيقة، ويحرص على الحديث بصوت منخفض دون انفعال، وبلغة عربية سليمة وبليغة، ويدفع الجمهور دفعا نحو طرح الأسئلة دون حواجز أو حدود، لدرجة أن يسأل بعض الحضور العالم المغربي عن الحديث النبوي القائل “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله”، ليرد بأن هناك خطابا دينيا للنبي وآخر باعتباره رئيسا للدولة، والأخير يخصّ مواقف بعينها، ويجب أن نتعامل مع كل نصّ بفهمه العميق، وأن النصّ المذكور جاء باعتباره توجيها للمسلمين لفتح مكة، فـ“الناس” هنا للتخصيص وليس للتعميم.
وجاء ردّ بن حمزة على سؤال يتعلق بالجهاد مؤكدا أن الجهاد ليس من التكاليف الفردية، وإنما يخصّ الدولة وفي أصول الدين أهل ذمة ومعاهدين ومستأمنين، ولا يجوز الجهاد من أجل الجهاد، كما يمكن حاليا نشر الإسلام بالدعوة والتعريف لأن الإسلام دخل معظم أنحاء العالم بالمعاملة الحسنة.
رسالة للرأي العام
لم تقف حدود الأسئلة عند شبهات الإرهاب وسوء تفسير بعض نصوص الدين، وامتدت إلى أسئلة وجودية غريبة، منها سؤال عن كيفية وسوسة إبليس لآدم في الجنة رغم طرده منها، وغيرها من الأسئلة التي تسمح للعقل بالتأمل والتدبّر دون سياج.
تبعث استضافة عالم ديني مغربي كبير في الرواق برسالة إلى الرأي العام بأهمية المكانة التي يشغلها الأزهر في حياة المسلمين خارج مصر، وهو ما اتضح في إشادة العالم المغربي بن حمزة بالأزهر ودوره وتاريخه.
ذكر بن حمزة أن القرن العاشر الهجري كان أكثر القرون فسادا وظلاما، ومع ذلك فإن الإمام جلال السيوطي عندما جاء مصر ودخل المسجد الأزهر أدهشه انتشار حلقات العلم، ليؤكد أنه ظلّ حصنا منيعا مقاوما للانحراف ومتصديا للجهل.
ويعكس التوجه الجديد لرواق الأزهر رغبة حقيقية في التفاعل والتعايش مع مشكلات المجتمع الدينية، وطرح وجه جديد لعلماء الدين يقوم على الانتصار للعلم وإثراء قيم الحوار والمعرفة والتسامح والانفتاح على الآخر.
قال عبدالمنعم فؤاد، لـ”العرب”، إن الهدف من رواق الأزهر “استعادة الدور الحضاري لهذا الصرح العظيم، وأنشطة الرواق يجب أن تركّز على إحياء المسؤولية العلمية والدينية والوطنية للأزهر حيال الأمة كلها”.
يشبه الرواق حاضنة آمنة لطلاب العلوم الشرعية، سواء من الأزهريين أو غيرهم، وملجأ للحريصين على معرفة أمور الدين، بعيدا عن استثمار واستغلال جماعات الإسلام السياسي.
يتسق مع ذلك تنظيم الرواق لمنح علمية للراغبين في دراسة العلوم الشرعية من مختلف الأعمار، وانطلقت أولى تلك المنح في الأسبوع الأول من فبراير الجاري وتضمنت دراسات في التفسير والحديث والفقه وأصوله والسيرة النبوية والنحو وعلوم القرآن والعقيدة، وكلها ترمي إلى التنوير ومواجهة الأفكار المتشددة ونشر اللين والتسامح.
مسؤولية مباشرة
يحاول الأزهر، تحت إدارة شيخه الدكتور أحمد الطيب، لعب دور رياديّ في التفاعل مع الناس والتأثير إيجابا عليهم، في ظل اتهامات متتالية بمسؤوليته المباشرة عن انتشار التطرّف، من خلال مناهجه التي تحتوي فتاوى غريبة وشاذة، ترجع إلى العصور الوسطي.
ولما كان عبدالمنعم فؤاد، أحد أهم وأبرز تلاميذ شيخ الأزهر فقد تصدّى على مدى الشهور الأخيرة بحرفية لبعض الاتهامات في مختلف وسائل الإعلام. وأوضح لـ”العرب” أن علماء الدين لم يحجروا على الأفكار، وكانوا يردّون على بعضهم البعض بالكلمة والرأي الآخر، لأنهم على يقين بأهمية التسامح ودوره في تقليص مساحة التشدّد في المجتمع.
ورغم حالة النشاط التي بدأها الرواق مؤخرا، فإن البعض يتصوّر أنه مجرّد تطوير في الشكل وليس في المضمون، لأن الدراسات الأزهرية تنطلق من الماضي، ويرجع كل أمر إلى فتاوى وأفكار صاغها بشر ماتوا قبل قرون، دون أن يقدّم الرواق طروحات تمثّل اجتهادا عصريا يقف في طريق المتطرفين.
ويصطدم عبدالمنعم فؤاد نفسه أحيانا مع قضايا تبدو تقدمية في التعامل مع النصوص الشرعية، مثلما كان موقفه رافضا لرأي سعدالدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر القائل بعدم حجية غطاء الشعر للمرأة، أو قبوله المساواة بين الجنسين في الميراث.
ويرى آخرون أن تفعيل أنشطة الرواق تعكس قلقا وخوفا من رجال الدين لتراجع مكانة الأزهر، وضعف تأثيره في حياة المسلمين لصالح جماعات الإسلام السياسي المختلفة.
ويقول أحمد سالم أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا (شمال القاهرة)، إن الأزهر “مؤسسة تعليمية ولا ينبغي له أن يتجاوز ذلك ويتحوّل إلى مؤسسة دينية”.
ويضيف لـ “العرب” أن التجديد الحقيقي للأزهر كمؤسسة تعليمية يتجاوز فكرة إقامة لقاء تحاوري إلى تطوير فعلي للعلوم الشرعية ومناهجها، بما يراعي مستجدات العصر وتطوّر المجتمعات وانفتاح السماوات، والتشديد على رسالة التسامح، “والأزهر كان في الماضي يرسل بعثات إلى أوروبا لتطعيم العلوم الدينية بمناهج عقلية متطورة، وهو ما توقف تماما في العقود الأخيرة”.