قرطبة ما تزال تثير زوارها بحكاياتها العربية

السبت 10 نوفمبر 2018 2:26 ص
قرطبة ما تزال تثير زوارها بحكاياتها العربية

ابن رشد الشاهد على حضارة ضائعة

جنوب العرب - جنوب العرب - فيصل عبد المحسن

المدن التي خطَّ التَّأريخ معالِم جمالها، ووشَّحها حاضرها الزَّاهر بفيض من السّحر وإلهام الخيال، فبدت هذه المدن لعابر السبيل، كفتيات لعوبات جميلات، لا يمكن نسيانهن. هكذا تعامل المغربي عزيز الشدادي، الذي زار الأندلس، فأدهشه كل شيء شاهده هناك، فسجل كل لحظة عاشها في ربوع تلك المدن العامرة من الأندلس: غرناطة، قرطبة، إشبيلية، مالقة، طليطلة في كتابه الجديد “صيف الوصل بالأندلس”.

في كتابه الجديد بعنوان “صيف الوصل بالأندلس” جمع الكاتب عزيز الشدادي بين اليوميات والسيرة والتَّأريخ والجغرافيا والسرد القصصي، وهو يجول بنا بين مدن الأندلس الشهيرة مثل غرناطة، قرطبة، إشبيلية، مالقة، طليطلة وغيرها. ويذكرنا هذا الكتاب الصادر عن دار سليكي أخوين بطنجة مؤخرا، بكتاب آخر صدر بداية القرن لأحمد فارس الشدياق بعنوان “الواسطة في معرفة مالطة” الذي غلبت عليه أيضاً صفات: اليوميات والسيرة، والتاريخ الكرونولوجي، والبحث الأنثروبولوجي.

تين قرطبة الفستقي


يلتقي الكاتب في ربوع قرطبة بكارمن عاملة الفندق، التي يشاهد في جمالها شموس ما أغسقته الأيام من حضارة العرب والمسلمين، وجمال عمارة المسلمين بالأندلس. كارمن الفتاة العشرينية، التي تستقبل زبائن الفندق بطبق تين فستقي اللون قطف من مزارع قرطبة. تين يذوب فوق اللسان، تاركا في الأفواه طعم وحلاوة العسل، ورائحة النعناع.

كما يحكي الكاتب عن مالقة التي عُرفت أيضا بجودة تينها، ويُسمى تينها بالتين القوطي، ويتميز بالإثمار مرتين في السنة، في شهر يونيو ويسمى” الباكور” نسبة إلى الإبكار، والثاني في نهاية أغسطس، ويدعى “الخْرِيف” نسبة إلى فصل الخريف. وقال الشاعر الأندلسي يوسف المالقيّ، مادحاً تين مدينته: “مالقة حيّيت يا تينها/ الفلك من أجلك يا تينها/ نهى طبيبي عنه في علتي/ ما لطبيبي عن حياتي نهى”.ويحكي الشدادي كيف ضرب موعدا بعد منتصف الليل مع كارمن وسائح إيراني، وجرى نقاش طويل بينهم عن العقائد لم يبرده سوى لطف وجمال كارمن، التي تتوسطهما، ومقاطعتها لهما بنظرة ساحرة أو ضحكة رنانة، وتعليق ساخر من الطرفين، وطبق التين الفستقي المالقي، وبركات المكان الهادئ.

الكاتب يحكي رحلته ويومياتها بسلاسة جامعا بين ما هو تاريخي وثقافي وفكري وأدبي وعمراني وحتى ذاتي كنظرة خاصة

كان أحد أسباب ضياع الأندلس حروب ملوك الطوائف من الأمويين بينهم، ومع الدولة الإدريسية بالمغرب، التي قتل فيها عشرات الآلاف من المسلمين، وضاعت فيها أموال، وخربت المدن العامرة. أضعفت تلك الحروب الجميع، واضطرّ ملوك الطوائف إلى الاستعانة بحلفاء من ملوك الإفرنجة، المحيطين بالأندلس، لقتال العلويين بالمغرب، فعرفوا أسرارهم، ونقاط ضعفهم، مما سهّل عليهم احتلال الأندلس في ما بعد.

ويحكي لنا الكاتب عن قرطبة التي كانت مهوى العقل عند ابن رشد. يشاهد فيها الزائر للمدينة تمثالاً لابن رشد، وهو قاعد ويمسك بلوحة، كأنه يستعد لإلقاء محاضرة في الفلسفة يناقش فيها مسألة الوجود الإنساني. اعتبره الكاتب، ممن طعموا الفلسفة العربية بماء الورد المقطر من الفلسفة اليونانية، وممن بحثوا عن الله في مسجد قرطبة، فتوصل إلى “أن الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً، ويعطينا شرائع مخالفة لها”.

نواصل كقراء رحلتنا مع الكاتب، الذي يحكي لنا بسلاسة عن رحلته جامعا بين ما هو تاريخي وثقافي وفكري وأدبي وعمراني وحتى ذاتي، ويلمح الشدادي في عرض فلامنكو راقص سهام عيون عربية في قوام إفرنجيّ، رافضاً للظلم، بشفافية مختلطة بآهات رقيقة من الحسرة على زمن ما، ليتذكّر من يستمع بأنه قادم من هزائم جسيمة من عمق التاريخ. وأن قدر الإنسان العربي يثير الشفقة، فقد عاش المجد من بغداد إلى قرطبة، والتبعية منذ سقوط غرناطة سنة 1492 م. الفلامنكو، رقص وغناء عجيبان يختلط فيهما العنف والرقة والحنين في جسد يتحرك بنشاط.

الهنا والهناك


أولى الكاتب اهتمامه لإحصاء من سَكَنَ الأندلس. فذكر العرب الذين وفدوا مع طارق بن زياد في سنة 711 م، والأمازيغ الذين جاؤوا من شمال أفريقيا، والمسَالِمة، وهم من سكان الأندلس الأصليين، لكنهم اعتنقوا الإسلام، وتصاهروا مع العرب والأمازيغ. وسكنها الموَلَّدون من أولاد “المسَالِمة” الذين نشأوا في ظل الإسلام، والمستعربون النصارى الذين بقوا على دينهم، وتكلموا العربية، وكانوا يسمون بـ”عجم الأندلس”. وسكنها “الصقالبة” وهم أسرى الحروب من أهل أوروبا، واليهود السفارديم، ولهم لغة تسمى ” اللادينو” وهي خليط من الإسبانية والعبرية.

كان الفرق الحضاري كبيراً بين إيزابيلا الكاثوليكية، التي احتل جيشها قرطبة، وسكانها من العرب. فإيزابيلا لم تستحم في حياتها إلا مرة واحدة يوم عرسها، كما اعترفت هي بذلك، بينما كان أهل قرطبة يستحمون كل يومين. وعدَّت حمَّاماتهم العمومية من الكثرة والأهمية من ملامح المدينة. حولتها إيزابيلا إلى مراقص، ولكي تخفي عفونة مجاريها، وأنابيب مياهها السابقة أمرت بنشر مسحوق القرفة في جنباتها.

وفي غرناطة استوقف الكاتب جمال رياض المدينة، ومعمارها الأندلسي، ووجوه نسائها البشوشة، المبتسمة، فتذكر ادِّعاء الشاعر ابن خفاجة بأنها الجنَّة: يا أهل أندلس لله دركم/ ماء وظل وأنهار وأشجار/ ما جنَّة الخُلد إلا في دياركم/ ولو تخيرت هذا كنت اختار.

ووقف الشدادي عاشقاً، متصوفاً، ناسكاً على مُطلِّ سان نيكولاس، مردداً “لو صرفت عمري في العشق هنا لما ذهب هدراً” فالقلب الذي ينبض بالعشق والرحمة لا يذبل، ولا يصيبه الكبر والوهن، وأكد هذا بقول جلال الدين الرومي: “إذا فاتك أن تكون محبوباً، فلا يفوتك أن تكون محباً”.

ومنذ اللحظات الأولى التي تحط فيها أقدام أهل المغرب بمدن الأندلس، تبدأ المقارنات بين “الهنا والهناك”. ففي إسبانيا يقول المغربي عن بلاده “الهناك” وعن المكان الذي يوجد فيه “الهنا”.

التعليقات

صفحات من التاريخ

السبت 10 نوفمبر 2018 2:26 ص

في الحديث عن تاريخ ليبيا المعاصر، وفي حقبة محمد إدريس السنوسي تحديداً، ليس اسم كرميني باشا شائعاً؛ وهذا طبيعي، في ظلّ غياب أي تأريخ فعلي للسنوسية وحرك...

السبت 10 نوفمبر 2018 2:26 ص

في عام 1830، بدأ الاحتلال الفرنسي للجزائر عبر شنّ باريس هجماتها على ميناء طولون، بمشاركة 37 ألف جندي. ومع حلول 14 يونيو/حزيران 1830، تمكنت الحملة الفر...

السبت 10 نوفمبر 2018 2:26 ص

في العام 1170 قبل الميلاد، انتفض العمال المنكبون على بناء مقبرة مخصصة للفرعون رمسيس الثالث. كان التأخير في تسلم مخصصاتهم من الحصص الغذائية أقسى من أن...

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر