رئيسان مهووسان بالظهور
القمة التي عقدت أمس الاثنين في هلسنكي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب، والروسي فلاديمير بوتين، شغلت -ومازالت تشغل- وسائل الإعلام العالمية، وذلك لسخونة ملفاتها بين يدي أهم رجلين يصنعان القرارات ويجذبان الكاميرات في العالم. هي المرة الثالثة التي يلتقي فيها ترامب وبوتين منذ وصول ترامب إلى رئاسة البيت الأبيض مطلع عام 2017 وسبق أن عقد الرئيسان محادثات على هامش مؤتمرين دوليين عام 2017 أحدهما في اجتماع مجموعة العشرين التي عقدت بألمانيا يوليو، تلته قمة فيتنام في نوفمبر من نفس العام.
حسابات الربح والخسارة بين السياستين الأميركية والروسية يربطها المحللون والمراقبون بشخصيتي الرجلين اللذين يختلفان في طرق البروباغندا وكيفيات التسويق، لكن ساكني البيت الأبيض والكرملين يلتقيان في جدية العمل على تحقيق مكاسب لبلديهما ضمن التنافس التقليدي، والذي عاد إلى الظهور بقوة بين القوتين العالميتين.
ثمة من يقول إن ترامب وبوتين يختلفان إلى حد التناقض في أساليب الظهور والتفكير، ويلتقيان إلى حد التماهي في حب الزعامة والإصرار على كتابة اسميهما في سجل التاريخ السياسي المعاصر، والذي لم يعد يعترف بتلك الزعامات التقليدية التي شهدها القرن الماضي.
الرئيسان الأميركي والروسي لا يشذان عن الصورة النمطية لسياسي أميركي يتصرف على نحو هوليوودي يتصف بالرعونة، ويقابله زعيم روسي لم يتخلّ عن أسلوب أسلافه السوفييت في المكر والعناد، لكن المواضيع المطروحة في قمة هلسنكي ليست تلك التي كانت تطرح في قمم جنيف مثلا، أيام الحرب الباردة.
لم تعد الشيوعية تخيف أميركا، ولم تعد الرأسمالية ومخططاتها تثير اهتمام قادة موسكو بل صار الوضع أكثر تداخلا وتعقيدا من الاستقطابات الثنائية التقليدية في السياسات الدولية، وجاءت قمة هلسنكي لتؤكد على هذا الأمر وتعطي نكهة مختلفة للقاءات الروس بالأميركيين.
صحيفة “الإندبندنت” نشرت موضوعا لمراسلها في موسكو أوليفر كارول، بعنوان “قبيل قمة بوتين – ترامب، خبراء يقولون إن الكريملين ينظر إلى ترامب كأحمق ويحاول استغلاله”.
ثمة من يقول إن ترامب وبوتين يختلفان إلى حد التناقض في أساليب الظهور والتفكير، ويلتقيان إلى حد التماهي في حب الزعامة
يقول كارول إن ترامب بعدما انتهى من دحر حلفائه في حلف شمال الأطلسي (الناتو) توجه الرجل مباشرة إلى العاصمة الفنلندية هلسنكي لعقد القمة التي كانت مرتقبة منذ فترة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ويحاول كارول التفسير بأن البيت الأبيض ربما شعر بمخاوف أمنية من عقد القمة في فيينا أو ربما كان مصدر الخوف من الحكومة اليسارية في النمسا والتي تخالف الغرب في الموقف من روسيا.
ويعتقد كارول أن القمة لا ينتظر منها الكثير في ظل انعدام الثقة بين الطرفين وبعد تبادل العقوبات وعمليات إبعاد الديبلوماسيين ينقل عن المعلق السياسي بافل بالاشينكو، الذي كان يعمل مترجما شخصيا للرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشيف في قمة مماثلة عام 1990 مع الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان، قوله إن أغلب الإنجازات التي تحققت في السابق كانت مبنية على الثقة الشخصية بين الرئيسين السوفييتي والأميركي.
مقاربات ومقارنات كثيرة تناولت شخصيتي الرئيسين ترامب وبوتين فأحد كتّاب موقع “يو.أس نيوز” يصف الرئيس الروسي بكونه “يُجسّد القوّة”. على الأقل هو الأمر الذي يريده مروّجو “البروباغندا الروسية أن نصدقه حول بوتين”، على حد تعبير كاتب المقال برت بروين. ويرى بروين أنّ الشخصية القوية لبوتين هي التي تقف وراء تأثير روسيا حول العالم، ويقارن بين الأخير والرئيس الحالي لأميركا دونالد ترامب، قائلا “بوتين يعرف جيدا كيف يلعب دور الرجل السيء لمصلحته، فيما ترامب يغضب الناس. بوتين يلعب على مخاوف الناس” ويضيف بروين “بوتين يريدك أن تكون خائفا”.
الجديد في هذه القمة التي انعقدت الاثنين في هلسنكي ليست القرارات التي يراها البعض مخيبة للآمال بل تغريدات ترامب، والتي تزيد من حنق حلفائه، فلقد عزا الرئيس الأميركي تردي علاقات بلاده مع روسيا، إلى سنوات طويلة من “الغباء” الأميركي وما وصفه مرارا بـ”مطاردة الساحرات”.
الجدير بالذكر أن ترامب يصف التحقيق بشأن المؤامرة المزعومة بين حملته الانتخابية وروسيا بـ”مطاردة الساحرات”، وتسري هذه التسمية الساخرة أيضا على تغطية عدد من وسائل الإعلام لهذه المسألة.
السياسة بلغة الربح والخسارة
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يقسو على حلفائه ويلين أمام خصومه، لعل هذه السياسة أكثر مكرا من تلك الصورة النمطية المعهودة، والمتمثلة في الاستقواء بالأصدقاء. هذا ما لمسناه في تصريحات ترامب وتغريداته قبل وأثناء قمة هلسنكي وبعدها، إذ يظهر الكثير من الحب للخصم والمزيد من النقد للصديق.
ويرى محللون أن هذا النمط من السياسة يعكس الكثير من الشجاعة ويعطي المزيد من النجاعة والفاعلية، ويساعد على كسب الثقة وإشاعة الطمأنينة ونزع فتيل التوتر. ولطالما تحدث ترامب على مدى سنوات عن إعجابه ببوتين إلى درجة القول بأنه يتحلى بالزعامة أكثر من الرئيس السابق باراك أوباما، وقلل من انتقاد توجهات بوتين في التوسع الإقليمي وحملات التأثير على الانتخابات الأجنبية.
وقبل لقاء القمة الذي انعقد أمس الاثنين في العاصمة الفنلندية هلسنكي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب، والروسي فلاديمير بوتين، قال ترامب في حوار له نقلته صحيفة “الغارديان” البريطانية أثناء تواجده في لندن “أعتقد أننا سنكون جيدين خلال القمة”، مضيفا أن البعض يوجه إليه تساؤلا حول ما إذا كانت تربطه علاقة صداقة أو عداوة مع بوتين قائلا “هذا من المبكر جدا الحكم على تعاملاتنا، إلا أننا يمكن أن نقول إننا الآن متنافسان”.
وقبل ساعات من وصوله إلى هلسنكي، قال ترامب لشبكة “سي.بي.أس” الأميركية للتلفزيون “إن العدو الأبرز للولايات المتحدة في العالم اليوم هو الاتحاد الأوروبي، بسبب ممارساته التجارية ضدنا”.
ولم يأت الرئيس الأميركي على ذكر روسيا والصين. وكان ترامب قبل ذلك قد قال للصحافيين “بوتين ليس عدوّي وآمل في أن نصير أصدقاء”. وسارع رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك للرد على ترامب قائلا “أميركا والاتحاد الأوروبي هما أفضل الأصدقاء، وأي شخص يقول إنهما أعداء يقوم بنشر الأخبار الملفقة”.
هذا “الود” الذي يبديه ترامب لزعماء خصوم مثل الرئيس الروسي أو حتى الرئيس الكوري الشمالي، يفسره محللون آخرون بنوع من التعاطف الخفي بين الدكتاتوريات. وفي هذا الصدد يقول الصحافي ليونيد بيرشيدسكي، مدير التحرير السابق لمجلة “إسكيمو” التي تصدرها شبكة بلومبرغ “إن الاختلافات بين ترامب وبوتين لا تستبعد اشتراكهما في ميول دكتاتورية” مضيفا “أن الدكتاتور الاستعراضي يكون على الأرجح أكثر انكشافا للأخطار من الدكتاتور الصامت، الأمر الذي يجب أن يكون مبعث قلق لمن يساعدون ترامب على التحضير لمفاوضاته الحتمية مع بوتين”.
منتقدو الرئيس دونالد ترامب لم ينتبهوا إلى أن الاقتصاد هو الذي يحرك السياسة منذ فجر التاريخ، وأن اقتصاديا ناجحا يعني بالضرورة سياسيا قويا وناجحا
ربما بالغ ترامب في ظهوره الاستعراضي إلى درجة أن هناك من شبهه بـ”قذافي البيت الأبيض” في مقارنة بينه وبين الزعيم الليبي الراحل، لكن ترامب حوّل الفعل السياسي إلى مشروع استثماري يخضع للأرقام وحسابات الربح والخسارة. وتمكن الملياردير المغامر من فتح “أسواق” واستدراج “زبائن” والتمكن من “دمج أو إفلاس أو هزيمة دكاكين سياسية منافسة” كما ظهر أثناء حملته الانتخابية.
يكفي أن نعرف أنّ والدي دونالد ترامب، عند طفولته كانا يعانيان ويشتكيان من إفراطه في الحركة حتى نمسك بمفاتيح هذه الشخصية المتصفة بالعناد والقدرة على تجاوز الإخفاقات، وكذلك الاستعراضية وحب الظهور، والانفراد بالرأي والسرعة في اتخاذ القرارات.
الإيقاع السريع الذي تتميز به شخصية ترامب يجعل السياسيين التقليديين يصفونه بالرعونة والتسرع، مما يحذر من الوقوع في أخطاء كارثية بنظرهم، لكن هؤلاء لم ينتبهوا إلى أن الاقتصاد هو الذي يحرك السياسة منذ فجر التاريخ، وأن اقتصاديا ناجحا يعني بالضرورة سياسيا ناجحا مع كل ما يتخلل ذلك من مغامرة وإقدام. وفي هذا الإطار، كان قد أبدى كبير الديمقراطيين في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأميركي مارك وارنر، قلقه من ترامب خلال لقائه بوتين أمس الاثنين. وقال السيناتور وارنر من ولاية فرجينيا “نحن نعلم أن ترامب لا يقوم بالكثير من العمل التحضيري لهذه الاجتماعات”. ويشير وارنر إلى خلفية بوتين في جهاز الاستخبارات الروسي (كي.جي.بي)، مبديا خشيته من استغلال بوتين لترامب خلال القمة.
وقال وارنر إنه من الأفضل وجود أميركيين آخرين في الغرفة (خلال لقاء بوتين – ترامب)، والتأكد من نقطة أساسية في الأجندة وهي ضمان عدم تدخل روسي آخر في انتخاباتنا. ومن برلين، حذر وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، الرئيس الأميركي من مغبة عقد أي صفقات منفردة مع روسيا على حساب الحلفاء الغربيين للولايات المتحدة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حضر قمة هلسنكي مع نظيره الأميركي دونالد ترامب، وهو واثق الخطوات، مزهوا بآخر نجاحاته التي منها إبهار العالم بتفوق بلاده في تنظيم المونديال على أحسن وجه.
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا اعتبرت فيه أنه بمجرد جلوس الرئيس الروسي بوتين مع نظيره الأميركي ترامب بقمة هلسنكي، يكون الرئيس الروسي قد حقق كل ما كان يأمل فيه تقريبا.
وأضاف التقرير إن كل ما يحتاجه بوتين لتحقيق النجاح بهذه القمة هو مجرد أن تنعقد من دون أي “توتر كبير”، موضحا أن ذلك سيعني “نهاية رمزية” للمساعي الغربية الهادفة إلى عزل روسيا بسبب ملف أوكرانيا والمزاعم حول تدخلها بالانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة وغيرها من الأمور.
كما أشار التقرير إلى أن توقيت القمة يصب لصالح بوتين حيث شارك فيها بعد اختتام بطولة كأس العالم التي نظمتها روسيا، لافتا في المقابل إلى أن ترامب من جهته أمضى الأسبوع الفائت وهو يوجه الانتقادات إلى الحلفاء الأطلسيين وإلى رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، خلال الزيارة التي قام بها إلى بريطانيا.
وقال التقرير إن القمة تعطي بوتين فرصة من أجل إعادة “النظام الطبيعي للشؤون العالمية”، وهذا “النظام الطبيعي” يعتبر أن التحالفات التقليدية ليست أمرا مسلما به وأن الدول الكبرى تعمل وفق مصالحها قبل أي شيء آخر.
أما الرئيس ترامب فجاء إلى هلسنكي مثقلا بالمشاكل الداخلية منها والخارجية، الداخلية وعلى رأسها التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الرئاسية لصالحه والفضائح الأخلاقية التي تلاحقه بالإضافة إلى التحديات الاجتماعية كالإضرابات وغيرها. أما على صعيد السياسة الخارجية فالأمور تبدو أكثر تعقيدا للرئيس الأميركي وبينها المشاكل التي أوجدها هو بنفسه مع شريكه الأوروبي، بالإضافة إلى الحرب التجارية بينه وبين الصين، ودعمه ومشاركته في العديد من الحروب في منطقة الشرق الأوسط، وخروجه من اتفاقية المناخ، وخلافه مع حلف الناتو.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التقى ترامب متسلحا بعودة أمجاد روسيا، المؤثرة والكاسرة للهيمنة الأميركية في العالم والقوة العائدة التي لم تقدم أيّا من التنازلات منذ قمة ميونيخ 2007، مؤكدا استحالة انسحاب موسكو من لعب دوره في القضايا الدولية واقتراحات الحلول التي تراها مناسبة لها، بالإضافة إلى رصيده القوي عالميا من خلال الانتصارات التي يقول بأنه حققها مع حلفائه ضد الإرهاب وهو الخطر الذي يهدد جميع بلدان العالم.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التقى ترامب متسلحا بعودة أمجاد روسيا، المؤثرة والكاسرة للهيمنة الأميركية في العالم والقوة العائدة التي لم تقدم أيا من التنازلات
بوتين صنع صورته وفق معايير الشعب الروسي التوّاق إلى زعيم يُعيد أمجادا بدّدها سقوط الاتحاد السوفييتي. بالمقابل كان الغرب يعمل على تكريس صورة أخرى لقيصر روسيا الجديد، تغلب عليها الشيطنة والشرّ والاستبدادية. أما ترامب فيسوق لصورة تكاد لم تشهدها الإدارة الأميركية من قبل.. صورة الرئيس الاستفزازي في تعامله مع كل من حوله، وضربه عرض الحائط بكل القرارات والمواثيق الدولية حتى صار مثالا للعنجهية والتغطرس.
دليل آخر على نجاح سياسة بوتين هو الانشقاق تلو الانشقاق في السياسة الأميركية وهو جالس في مكتبه في الكرملين أو يُلاعب الدببة ويغوص مع الدلافين، فلقد نشر موقع “ذا ديلي بيست” تقريرا أشار فيه إلى أن أحد المسؤولين الأميركيين المعروفين بالعداء تجاه روسيا وبتقديم الدعم لحلف “الناتو” وهو المدعو “ريتشارد هوكر” قد ترك منصبه بمجلس الأمن القومي قبيل قمة الناتو الأخيرة وكذلك قبيل قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين أمس الاثنين.
وأوضح التقرير أن “هوكر” عمل طوال خمسة عشر شهرا مديرا لملف روسيا وأوروبا وحلف الناتو بمجلس الأمن القومي الأميركي، مضيفا أنه وبينما كان يستعد مستشار الأمن القومي جون بولتون للسفر إلى موسكو للقاء بوتين في السابع والعشرين من يوينو الماضي كان “هوكر” بصدد ترك منصبه. وتابع التقرير أن هوكر، هو واحد من المؤيدين بقوة للتواجد العسكري الأميركي في أوروبا ولحلف الناتو، ومن المشككين بنوايا روسيا في القارة الأوروبية.
ويذكر التاريخ المعاصر أنه، وعند تسلّم فلاذيمير بوتين الحُكم، بدأت روسيا تشهد تحوّلات تدريجية. شعور الانكسار والضعف الذي استوطن المواطن الروسي في عهد بوريس يلتسين بدأ ينحسر مع خَلَفه بوتين. منذ تسلّمه الحُكم، اضطلع بوتين بمهمة إعادة روسيا إلى موقعها ومجدها بعد سنوات من الضعف والفوضى عقب انهيار الاتحاد السوفييتي.