اللجوء إلى الشارع مخاطرة قد لا يمكن لعمان ضبطها
لا شك في أن أي تطور للصراعات في المنطقة لا بد وأن يكون للأردن حضور فيها وذلك لأبعاد إستراتيجية وجغرافية، وحين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية والقدس فإن التدخل الأردني يتضاعف فأي تطور في هذا الملف سيترك تداعيات مباشرة على الداخل كما على موقع الأردن وتحالفاته داخل المشهد الإقليمي. ومنذ أيام يعيش الأردن على وقع إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل ضمن عاصفة غضب عربية ودولية وسط تأكيد من العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني على أن بلاده ستواصل دورها في حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، من منطلق الوصاية الهاشمية على هذه المقدسات. فبمقتضى معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية تخضع الأماكن المقدسة في القدس للولاية الأردنية. ولا تزال الأوقاف الإسلامية في القدس تابعة لوزارة الأوقاف الأردنية، كما أن المقدسات المسيحية تخضع لقانون أردني ينظم الإشراف عليها منذ خمسينات القرن الماضي.
يجزم مراقبون للشأن الأردني أن التطورات الأخيرة المتعلقة بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ستترك تداعيات مباشرة على الداخل الأردني كما على موقع الأردن وتحالفاته داخل المشهد الإقليمي العام.
ويرى هؤلاء أن الداخل الأردني الذي تحمّل بصعوبة ومرونة تداعيات غزو العراق منذ عام 2003، وتحمل قبل ذلك تداعيات أي اختلالات متعلقة بالمسألة الفلسطينية، يسعى بجهد لتجاوز أنواء الرياح المتعلقة بالقدس، ليس فقط لما للمدينة من موقع داخل الوجدان الشعبي المحلي، بل أيضا لما للقدس من مكانة تتعلق بالعرش الهاشمي نفسه.
ويستغرب دبلوماسيون أردنيون سابقون إقدام واشنطن على اتخاذ قرار مثير يضر بالأصدقاء والحلفاء للولايات المتحدة قبل الخصوم في الشرق الأوسط، ويضر مباشرة بمصالح الأردن الذي لطالما اعتبر قريبا من واشنطن.
دبلوماسيون عرب يرجحون أن تكون أزمة القدس مناسبة لتصويب علاقات العرب مع الأردن كما العلاقات الدولية مع عمان
وتضيف هذه الأوساط أن ترامب اتخذ قراره رغم التحذيرات التي وجهها حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، ورغم تلك التي صدرت عن العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني في العلن كما أثناء زياراته الأخيرة لواشنطن.
ونقل عن مصادر مقرّبة من القصر الملكي في عمان أن غضبا شديدا يشوب أوساط الديوان الملكي جراء سلسلة من التطورات المتعلقة بالشأن الفلسطيني وبالصراع في الشرق الأوسط في شقه الإسرائيلي الفلسطيني دون الأخذ في الاعتبار مصالح الأردن.
وتقول المصادر إن التفاصيل المتعلقة بالمصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس جرت دون مشاركة الأردن، كما أن ما يشاع عن تسوية تعمل عليها الولايات المتحدة تحت مسمى “صفقة القرن” يتم تداوله دون توفير معلومات في هذا الشأن لصاحب القرار في المملكة.
نقطة توازن
تؤكد مصادر أردنية مطلعة أن الأردن الذي يسعى إلى الحفاظ على نقطة توازن صعبة في مسائل علاقاته مع المعضلة السورية وتلك العراقية أو الفلسطينية، يجد نفسه في حالة اختلال داخل ما يُعدّ في الكواليس وداخل الغرف المغلقة للدول الثلاث.
وقالت هذه المصادر إن موقف الأردن في الشأن السوري انتقل من مناصرة مقنّعة للمعارضة السورية إلى سعي لفتح قنوات الاتصال مع نظام دمشق، وأن التنسيق الذي كان يتم مع الجانبين الأميركي والسعودي في هذا الشأن تحوّل باتجاه اقتراب من خيارات روسيا.
وتلفت المصادر إلى أن زيارات العاهل الأردني إلى روسيا ولقائه بزعيم الكرملين الرئيس فلاديمير بوتين لا يمكن إدراجها إلا ضمن ورشة السعي للتفتيش عن بدائل لدى موسكو تكون بديلا أو مكملا للتحالف الأردني الأميركي.
شهد عام 2017 خطوات عملية لوقف إطلاق النار في مناطق سورية عديدة، تمخضت عن اجتماعات أستانة 4 في 4 مايو الماضي، حيث اتفقت تركيا وروسيا وإيران على إقامة مناطق خفض التوتر، يتم بموجبها نشر وحدات من قواتها لحفظ الأمن في تلك المناطق.
بعد يومين بدأ سريان الاتفاق، وشمل أربع مناطق هي: محافظة إدلب وأجزاء من محافظة حلب وأجزاء من ريف اللاذقية (شمال غرب) وحماة (وسط)، والثانية في ريف حمص الشمالي (وسط)، والثالثة في ريف دمشق، والمنطقة الرابعة في الجنوب (درعا)، على الحدود مع الأردن.
ولعب الأردن دورا واضحا في رسم الخطوات الأولى التي مهدت الطريق لتطبيق اتفاق مناطق خفض التوتر، بعد الاتفاق الذي أعلنه مع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا في يوليو الماضي، والقاضي بوقف إطلاق النار بين قوات النظام والمعارضة جنوب غربي سوريا.
الاتفاق، الذي دخل حيّز التنفيذ في التاسع من الشهر نفسه، أعقبه إعلان تفعيل مركز عمان لمراقبة تنفيذ اتفاق خفض التوتر في المنطقة ذاتها. وفي الثلث الأول من نوفمبر الماضي، أعلنت عمان عن اتفاق ثلاثي أردني أميركي روسي على تأسيس منطقة لخفض التوتر جنوبي سوريا.
عبر دوره في تطورات الجنوب السوري أثبت الأردن أن مناطق خفض التوتر هي مشروع قابل للتطبيق، ويمكن الارتكاز عليه مستقبلا في شكل إدارة المناطق، لا سيما وأنه من أكثر الدول تأثرا بتداعيات الظروف التي تعيشها جارته الشمالية.
واعتبر محمد المومني، وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال، المتحدث باسم الحكومة الأردنية، أن “الأردن يرتبط مع سوريا بحدود جغرافية طويلة، وتأثر بالصراع الدائر فيها، فكان لا بد له من الإسهام في تحقيق تقدم على الأرض يحفظ وحدة الأراضي وسلامة الشعب”. وشدد على أن “إنشاء مناطق خفض التوتر وسيلة مهمة لتركيز القتال داخل سوريا في مواجهة التنظيمات المتطرفة”.
وتتجه العلاقات بين الأردن والنظام السوري نحو عودة المياه إلى مجاريها بعد جمود دام سبع سنوات؛ وهي عودة مشروطة تفرضها المتغيرات السورية والإقليمية.
وقال رائد الخزاعلة، رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأردني، إن “مناطق خفض التوتر هي مصلحة مشتركة، وفي ما يتعلق بالأردن فالجنوب السوري يدخل في عمقنا، ولا يمكن كدولة أن نترك الأمور بمنأى عن اتخاذ إجراءات مناسبة”. واعتبر أنه “إذا استمرت الأمور دون عبث جديد في المنطقة، فستكون هناك مناطق خفض توتر إضافية في سوريا”.
وتضيف المصادر أن عمان لم تعد تثق بشكل كامل بالخطط الأميركية في المنطقة، لا سيما تلك المتعلقة بسوريا، والتي تكشف عن ارتفاع نسبة الارتجال داخلها بما لا يمكن طمأنة الأردن على أمنه الاستراتيجي.
وتكشف مراجع سياسية مراقبة أن الانفتاح السعودي على العراق منذ زيارة وزير الخارجية عادل الجبير إلى بغداد في فبراير الماضي، لم يأت من ضمن استراتيجية عربية شاملة، يكون فيها الأردن خصوصا طرفا أساسيا، بل جاء من ضمن تبدل في استراتيجية الرياض بالتكامل مع تبدل في استراتيجية واشنطن لدعم رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي ورفد خياراته.
وتضيف المراجع أن الأردن كان سباقا في نسج علاقات مع الداخل العراقي بما يفسر تلك الزيارات التي قامت بها شخصيات كردية وسنية وشيعية إلى عمان لتوطيد تواصل العراق مع المحيط العربي، وأنه كان من الأجدى أن يأتي الجهد السعودي-الخليجي منسقا مع الجهد الأردني.
ويقول مصدر أردني من أصول فلسطينية إنه صحيح أن 70 بالمئة من السكان في الأردن هم من أصول فلسطينية، إلا أن اهتمام الأردن والحكم الهاشمي يتجاوز هذه المسألة إلى مسألة العلاقة مع القدس والأماكن المقدسة في المدينة.
ويضيف هذا المصدر أن الجانب الفلسطيني نفسه قابل بهذه الحقيقة ومشجع لها من أجل الحفاظ على الوضع الخاص للمدينة وصون هويتها العربية وارتباطها بالإرثين الإسلامي والمسيحي، لما للأردن من مكانة داخل المجموعة الدولية، ولما لعمان من علاقات وطيدة مع عواصم القرار الكبرى، خصوصا الغربية منها.
لكن مصادر وزارية أردنية تكشف أن المشهد الحالي الأردني يأتي على خلفية برودة في العلاقات الأردنية السعودية، وأن البلاد التي تعاني من أزمة مالية خانقة، لا سيما بسبب أزمة اللجوء السوري، تحتاج إلى رعاية دولية عامة ورعاية عربية، لا سيما من قبل دول الخليج العربي.
ورغم نفي الجهات الرسمية وجود خلاف بين عمان والرياض، بيد أن اهتمام الصحافة الأردنية بالزيارة التي قام بها العاهل الأردني إلى السعودية مؤخرا، وتدفق التحليلات والتعليقات على ما حملته المحادثات بين الطرفين، أفصحا عن وجود توتر كامن تسعى العاصمتان لتسويته وتجاوز مفاعيله.
واعترف مراقبون أردنيون بأن المظاهرات التي اجتاحت الأردن تنديدا بقرار ترامب بشأن القدس، جاءت هذه المرة بتشجيع من السلطات الأردنية ما يشي بحاجة الأردن إلى إحداث ضجيج كبير تسمعه العواصم القريبة كما تلك الدولية البعيدة.
بيد أن هؤلاء لفتوا إلى أن في اللجوء إلى الشارع مخاطرة قد لا يمكن لعمان ضبطها، لا سيما لجهة استغلال جماعة الإخوان المسلمين للموقف، وهذا ما ظهر جليا في مسألة عدم اهتمام الجماعة بالمشاركة في المظاهرات التي “شجعتها” السلطات، ومشاركتها لاحقا وبكثافة في مظاهرات تعبر عن حجمها داخل البلاد.
ورأى مراقبون أن الحركة الدبلوماسية النشطة للعاهل الأردني، ودعوة الأردن إلى اجتماع الجامعة العربية، ومشاركة الملك شخصيا في قمة المؤتمر الإسلامي الطارئة في إسطنبول، هدفها إعادة التذكير بمحورية الدور الأردني في قضايا المنطقة كافة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالقدس وبأي تطور فلسطيني آخر.
ويضيف هؤلاء أن الموقف الدولي الرافض لقرار ترامب والذي ظهر في جلسة مجلس الأمن التي خصصت لذلك يحتاج إلى شراكة الأردن لإيجاد خيارات بديلة في المستقبل.
تصويب العلاقات
نفت الأوساط الأردنية والفلسطينية الرسمية كافة الأنباء التي تحدثت عن ضغوط سعودية مورست لحث الملك عبدالله الثاني والرئيس محمود عباس على عدم حضور قمة إسطنبول، حتى أن عباس كشف في كلمته أمام القمة الإسلامية هناك أن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز قد أوصاه في آخر زيارة له للرياض بعدم التخلي عن القدس، وبتمسك السعودية بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
مراجع عربية مخضرمة تنصح بتأمل الشأن الأردني ومراقبة تطوراته الداخلية كما مواقفه الدبلوماسية دون التعويل كثيرا على تحولات كبرى ستطرأ على موقع البلاد داخل المشهدين الإقليمي والدولي
ولا يخفي بعض المتابعين للشؤون الأردنية أن بعض التكهنات تذهب إلى حد استشراف تحول في تحالفات الأردن لجهة اقترابه من محور روسيا تركيا إيران مقابل ابتعاده عن محور خليجي أميركي.
وذهبت بعض المواقف في هذا الإطار إلى التساؤل عن الحكمة من عدم الاتصال بطهران إذا ما كانت المصالح الأردنية تستدعي ذلك، فيما اعتبرت بعض المصادر أن الزيارة التي قام بها الملك عبدالله الثاني إلى تركيا ولقائه هناك بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان غداة قرار ترامب بشأن القدس، قد تمثل إشارات يقوم الأردن بدرسها في شأن تطوير علاقات عمان بأنقرة.
وتنصح مراجع عربية مخضرمة بتأمل الشأن الأردني ومراقبة تطوراته الداخلية كما مواقفه الدبلوماسية دون التعويل كثيرا على تحولات كبرى ستطرأ على موقع البلاد داخل المشهدين الإقليمي والدولي.
وتقول هذه المراجع إنه إذا ما كان من “عتب” أردني على حلفاء الأمس فذلك لا يعني أنه جاهز لنسج تحالفات انقلابية على النحو الذي يتناوله البعض.
وتضيف المراجع أن التناقض الأردني الإيراني ما زال كبيرا خصوصا في ظل الأجواء الأميركية والأوروبية ضد الجمهورية الإسلامية، وأن مسألة تطوير العلاقات الأردنية التركية لن تعدو كونها خيارا عقلانيا يندرج ضمن دائرة تنويع العلاقات الإقليمية وتطويرها دون أن يؤدي ذلك إلى اختراق قواعد العلاقة التقليدية بين الأردن والجوار العربي، لا سيما مع مصر والسعودية والإمارات.
ويرجح دبلوماسيون عرب أن تكون أزمة القدس مناسبة لتصويب علاقات العرب مع الأردن كما العلاقات الدولية مع عمان.
ويلفت هؤلاء إلى أن ما صدر عن الأردن رسميا لم يتجاوز الأعراف وبقي تحت سقف المراقبة والسيطرة، وأن الشطط الذي وقع أو من الممكن أن يقع داخل الشارع الأردني هو تحت المراقبة الحثيثة ولن يُسمح له بأن يتجاوز ما يرسم على المستوى الحكومي كما على مستوى حركة الديوان الملكي الأردني لحسن قيادة السفينة الأردنية داخل عواصف هذه الأيام.