حرب شوارع تنبع من اسمائها بين مصر وتركيا

الجمعة 16 فبراير 2018 12:13 ص
'حرب شوارع' تنبع من اسمائها بين مصر وتركيا

تركيبة مختلفة للسكان تنعكس على العمارة

جنوب العرب - جنوب العرب - القاهرة

تحمل الشوارع بين جنباتها دلالات تتعدى دورها التقليدي كطرق للمارة، فهي أرشيف يُدوّن التاريخ ليحفظ سجلات المهزومين والمنتصرين بالمعارك ويخلد اسم رمز وطني أو مثقف بارز، وأحيانا معاني أبعد بكثير لتصبح وسائل للمناكفات ولتوجيه رسائل سياسية غير مباشرة.

بالقرب من قصر القبة، أحد مقرات الحكم في مصر، بشرق القاهرة، يقع شارع سليم الأول، الذي تحول فجأة لأشهر الشوارع تطوفه عدسات المصورين والفضائيات، بعد قرار السلطات المصرية تغيير اسمه استجابة لأبحاث تاريخية تعتبر صاحبه مستعمرا عثمانيا قتل الآلاف من المصريين، في خطوة أثارت جدلا سياسيا لأنها تزامنت مع زيادة تأزم العلاقات بين القاهرة وأنقرة.

ورغم أن شارع سليم الأول تأسس في القرن التاسع عشر، بعد بناء قصر القبة في منطقة ريفية هادئة، لتتحول المنطقة الزراعية التي تجاوره إلى شوارع تضم قصورا ومساكن لخدمة الموظفين والحاشية الملكية، إلا أنه لا يبدو على الشارع اليوم أي بعد تاريخي، بعد أن طوت الحداثة على بنياته واحتلت المتاجر أرصفته وواجهاته.

وتعود أهمية الشارع الحقيقية إلى قربه من قصر القبة، وهو من أكبر القصور ذات الجذور الملكية في مصر، بناه الخديوي إسماعيل، لكن لم يتخذه مقرا دائما للحكم، وفي عهد نجله توفيق اقتصر دوره على استضافة الاحتفالات الرسمية وحفلات الزفاف الملكية، قبل أن يعتلي فؤاد الأول عرش مصر في بدايات القرن الماضي ويصبح مقر الإقامة الرسمي، بعدما أضاف له محطة سكك حديدية خاصة ويأتي الزوار مباشرة إليه من الإسكندرية.

واستقبل الشارع أيضا موظفي قصر الطاهرة الذي بني على الطراز الإيطالي لصالح الأميرة أمينة ابنة الخديوي إسماعيل القريب من قصر القبة، والذي استضاف الملك الراحل سعود بن عبدالعزيز ملك السعودية آنذاك ومؤسسها، أكثر من مرة، في العصرين الملكي والجمهوري، كما احتضن غرفة العمليات العسكرية في حرب أكتوبر 1973، وكان مقرا أيضا لإقامة أرملة شاه إيران رضا بهلوي.

ودأب الخديوي إسماعيل على إطلاق أسماء سلاطين الدولة العثمانية على شوارع القاهرة، كشارع عبدالعزيز التجاري الشهير بوسط القاهرة الذي تمت تسميته تيمنا بسلطان تركيا عبدالعزيز، قبيل زيارته للقاهرة عام 1863، باعتباره أول سلطان عثماني يأتي لمصر زائرا بعد سليم الأول.


تركيبة فريدة

لم يتبق من معالم شارع سليم الأول حاليا ما يشير إلى تاريخه العريق، فالقصور اختفت تماما وحلت مكانها منازل غير متناسقة، باستثناء اثنين، أحدهما متهدم وتحول إلى مخزن لأحد تجار البيرة، والثاني يشهد نزاعا حول الملكية بين ورثته وهيئة الآثار المصرية بعدما تجاوز عمر البناية مئة عام.

ليلى أمين، وريثة أحد القصرين تقول لـ”العرب، إن نزاعها مع الآثار المصرية لا يتعلق بالسكن والطوب، لكن بذكرياتها في المكان، ففي الحديقة الصغيرة التي لم يتبق منها سوى شجرة وحيدة للبرتقال لا يزال عقلها يحمل صورا قديمة للشارع والمنطقة وجمالها قبل أن تغتاله العشوائية الحالية.


سليم الأول.. سليم العبوس
واشتهر شارع سليم في الفترة الملكية ببيوت الأثرياء ذات التصاميم التركية البسيطة المكونة من طابقين شرفاتهما على شكل دائري، على عكس العمارة الخديوية ذات الطابع الإمبراطوري الأوروبي في وسط القاهرة التي اتسمت بارتفاع النوافذ وكثرة التماثيل الضخمة التي تبدو كما لو كانت تحمل الأسقف وتتكئ عليها الجدران.

وكان السلطان سليم الأول والملقب بالعبوس، الذي يتخذه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قدوة له، مشهورا بإسطبلات الخيول العربية وخبرائها الذين تخصصوا في معرفة أنساب الخيول وأصولها وفروعها وأنواعها، وفضلوا الاقتراب من القصر أملا في عقود لتوريد الخيول لخدمة المركبات الملكية والأميرية التي كان يحتاج جر بعضها إلى تسعة أحصنة دفعة واحدة.

وفي الحرب العالمية الثانية، هجر الكثير من الأجانب شارع سليم، وتحولت إحدى مدارسه إلى معتقل للسياسيين المصريين المؤيدين لدول المحور بقيادة ألمانيا والدولة العثمانية، ودول الحلفاء بزعامة بريطانيا وفرنسا، قبل أن يتم إغلاقه بعد جلاء الاحتلال البريطاني عن مصر عقب اندلاع ثورة يوليو 1952، وينهار مع مرور الزمن لتحل محله إحدى العمارات السكنية.

ويتذكر أهالي شارع سليم الأول منزل فتحية رزق التي كانت تقطن شارعهم والتي آسر حبها قلب الرئيس الغاني الراحل كوامي نكروما، بعدما رآها في أحد المحال التجارية وطلب من الرئيس جمال عبدالناصر خطبتها، فأرسل زوجته تحية كاظم ومعها سكرتيره الشخصي لمنزل أسرتها، ليتم الزواج بعدها بأسابيع في قصر الطاهرة المجاور لشارع سليم وتصبح سيدة غانا الأولى مصرية.

ويتذكر أيضا الكثير من سكان الشارع المشاهير الذين كانوا يتوافدون على مقهى ألف ليلة وليلة بشارع محمد إبراهيم المتفرع من سليم الأول، وكان يزدحم كل اثنين بالمفكرين مثل الراحل السيد ياسين والأدباء مثل بهاء طاهر وجمال الغيطاني وإدوار الخراط، انتظارا لعقد ورشة الزيتون الإبداعية بالمقر القديم لحزب التجمع اليساري الذي كان ينظم ندوات أسبوعية لدعم الشعب الفلسطيني.

ويجمع شارع سليم الأول تركيبة فريدة من المصريين من أصول مختلفة، ولا يزال يفتخر بعضهم بأصله التركي مثل المهندس المعماري منيسي إبراهيم المنيسي، الذي يقول إن “سليم الأول سيظل موجودا رغم تغيير اسم شارعه كغيره من الشوارع التي تبدلت ولا تزال معروفة باسمها القديم”.

وربما ترجع تلك التركيبة الفريدة إلى موقع الشارع الذي يقترب في بدايته من القصور الخديوية ومنطقة “الحلمية” التي سكنها الأجانب وضمت قشلاقات (معسكرات) الجيش الإنكليزي بعد الاحتلال، وأصبحت في ما بعد ثكنات للجيش المصري، وينتهي بالقرب من منطقة المطرية التي تضم مسلة الملك سنوسرت الأول الأثر الوحيد الباقي من معالم مدينة هليوبوليس الفرعونية.

وخلقت التركيبة العجيبة من السكان تنوعا دينيا لتضم منطقة الزيتون عددا من أشهر دور العبادة الإسلامية والمسيحية على حد السواء، كمسجد العزيز بالله ثاني خلفاء الدولة الفاطمية بمصر ومسجد الظواهري المسمى باسم شيخ الأزهر محمد إبراهيم الظواهري وسنان باشا، وكنيسة العذراء التي تعتبر مزارا سياحيا مرت به العائلة المقدسة، بجانب عدة كنائس للإنجيليين والكاثوليك.


تداعيات القرار

مازالت تداعيات القرار المثير تراود المصريين بحثا عن السبب الحقيقي وراء التغيير، بعد أن جاء تغيير اسم الشارع استجابة لمطالب مؤرخين مصريين مقرونة بوثائق تاريخية تثبت دموية السلطان العثماني، الذي اعتبرته أول مستعمر لمصر في العصر الحديث واتهمته بسفك دماء نحو 50 ألفا من المواطنين الذين وقفوا للدفاع عن أرضهم، وفقا لبيان محافظة القاهرة.

وأكد محمد صبري الدالي أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان وصاحب طلب تغيير اسم الشارع، أن سليم الأول “سفك دماء الآلاف وأذاق المصريين الذل والهوان وحوّل بلدهم من إمبراطورية تضم الحجاز والشام واليمن إلى إمارة ضعيفة”.

وكان جنود السلطان سليم الأول أطلقوا النيران على المدنيين الذين ساعدوا جيش طومان باي آخر سلاطين المماليك بمصر، في منطقة بولاق بالجيزة، ليسقط الآلاف من القتلى، قبل أن يعلن نفسه واليا على مصر عام 1517 ويعود إلى إسطنبول حاملا معه كنوز قصور المماليك بجانب أفضل العمال والحرفيين المصريين في نحو 53 حرفة.

وبعد دخول مصر، قرر سليم الأول شنق طومان باي على باب زويلة، وترك جثته معلقة لمدة ثلاثة أيام قبل أن ينزل جثمانه القاضي ويكفنه ويدفنه، ومن المفارقات أن سليم تبرع بثلاثة أكياس من الفضة للتصدق بها على روح القتيل الذي لم يكن قد أكمل الثلاثين عاما حين مقتله.


وتحمل الشوارع وكتب التاريخ الكثير من الصدف الغريبة، وإحدى تلك الصدف أن يتقابل العثماني سليم الأول والمملوكي طومان باي في حي واحد، بعد أن أطلق اسماهما على شارعين متلاصقين متوازيين بحي الزيتون ليظلا شاهدين على أوجه العداء بينهما وصراعهما على عرش مصر.

وقال الدالي لـ”العرب” إن السلطان العثماني حل الجيش واستبدله بفرق عسكرية تركية تسمى “الوجقات”، كل منها يتكون من نحو 6 آلاف جندي، وبالتالي لا يوجد مبرر يشفع له كي تخلد شوارع القاهرة أول مستعمر لها. ورغم إعلان محافظة القاهرة عن إجراء استطلاع للرأي حول اختيار الاسم البديل، إلا أن المؤشرات تصب لاختيار علي بك الكبير القائد المملوكي الذي استغل حروب الأتراك مع روسيا، ليبسط سلطانه على مصر ويمنع إرسال الأموال المقررة سنويا للعثمانيين، في اختيار لا يخلو من دلالات سياسية، بدا وكأنه ضمن خطة لمواجهة “العثمانية الجديدة” ثقافيا.


تأثيرات سياسية

جاء توقيت حذف اسم سليم الأول من أحد شوارع القاهرة ليحمل دلالات حول تأزم العلاقات مع أنقرة وليس لأنه كان مستعمرا فقط، فالكثير من الأماكن المصرية لا تزال تحمل أسماء شخصيات تاريخية تعود لمحتلين، كاللورد الإنكليزي كوتشنر الذي يحمل اسمه مستشفى بالقاهرة وإحدى القنوات المائية الرئيسية في دلتا النيل، وقمبيز الثاني الملك الفارسي الذي استولى على مصر سنة 525 قبل الميلاد.

ومنذ عزل الرئيس المنتمي لجماعة الإخوان محمد مرسي عن الحكم في أعقاب تظاهرات شعبية ساندها الجيش، لا تمر مناسبة دون أن يهاجم فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره المصري عبدالفتاح السيسي.

ويقول بعض المؤرخين إن قادة ثورة 23 يوليو 1952 ربما تجاهلوا تغيير اسم سليم الأول أو سقط سهوا، إبان تغيير أسماء الكثير من الأماكن والشوارع التي تحمل أسماء ملكية، ومن بينها شارع الملك فؤاد الذي أصبح 26 يوليو، ذكرى مغادرة الملك فاروق مصر إلى أوروبا، ومستشفى الملكة نازلي بالإسكندرية تحول إلى “الأنفوشي للأطفال”، ومستشفى فاروق إلى “الجلاء للولادة”.

واختيار شارع السلطان سليم الأول بالذات لتغييره رغم مجاورته لشوارع أخرى تحمل أسماء لشخصيات عثمانية كسنان باشا الصدر العثماني الأعظم في عهد سليم الأول، يحمل انتقادا ضمنيا لسياسات الرئيس التركي الرامية لعودة نفوذ الدولة العثمانية مجددا. ويأتي تغيير اسم شارع سليم في ظل سياسات أردوغان لإعادة أمجاد الدولة العثمانية التي كان من بينها إطلاق اسم فخر الدين باشا آخر الأمراء العثمانيين بالمدينة المنورة على أحد شوارع أنقرة، رغم ضلوعه في ارتكاب جرائم عدة بحق شعب المدينة وسرقة أموال ساكنيها وتراثها.

ولم يصدر رد رسمي من تركيا حول تغيير الشارع، لكن وكالة “الأناضول” التركية الرسمية أوردت تقريرا لمؤرخين من جامعة قطر وإعلاميين معروف عنهم تأييدهم لجماعة الإخوان المسلمين، بأن سليم الأول فتح مصر ولم يقم بغزوها ودخلها استجابة لعلماء مصر بهدف إنقاذ البلاد من فوضى وظلم المماليك.

ويرى مراقبون أن تسمية شارع سليم الأول تعود إلى مطلع القرن التاسع عشر، لذلك فالحديث عن تغييره الآن له أبعاد سياسية واضحة وعلى علاقة وثيقة بزيادة تأزم العلاقات بين مصر وتركيا، وتلميحات قيادات الأخيرة المتكررة للتفاخر بمجدهم العثماني، الأمر الذي منح القاهرة فرصة للتنقيب في الماضي وإعادة فتح بعض القضايا المعلقة ومن بينها أسماء الشوارع.

ويظل شارع سليم الأول يحمل مشاعر متباينة بالنسبة للأتراك، فرغم كونه قائدا عسكريا بارزا استطاع توسعة رقعة الدولة العثمانية بضم مصر وإيران، إلا أنه كان باطشا وظالما لشعبه وتسبب في مقتل الآلاف منه في حروب يراها كثيرون لم تكن مجدية.

التعليقات

تقارير

الجمعة 16 فبراير 2018 12:13 ص

اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بأن زعيم جبهة التحرير الوطني وحكيم الثورة العربي بن مهيدي "قتله عسكريون فرنسيون"، وذلك بمناسبة الذكرى السبعين لا...

الجمعة 16 فبراير 2018 12:13 ص

لا تزال التكهنات تتواصل حول مقتل زعيم حزب الله حسن نصر الله وكيفية معرفة إسرائيل بمكانه كان أحدثها ما قاله زعيم مليشيات موالية لإيران في العراق.وفي لق...

الجمعة 16 فبراير 2018 12:13 ص

هل نجا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من محاولة اغتيال؟** هذا السؤال يتصدر المشهد بعد إعلان استهداف منزله في قيساريا، وسط تكهنات وتكتم حول ال...