فى السياسة والاقتصاد ومصر!

الثلاثاء 06 فبراير 2018 10:24 م

أيهما يسبق الآخر: السياسة أم الاقتصاد؟ سؤال كثيرا ما يثار فى مصر، وأحيانا ما يتم اختصاره إلى أن المسألة نوع من الأولويات، فتكون لقمة العيش لها الأولوية، وفى أوقات أخرى تكون الحرية وهى تعبير آخر عن السياسة عندما تعنى الاختيار والمشاركة وهى التى يموت الناس من أجلها. وفى الحقيقة فإن وجود المجتمع كان سابقا على كليهما، الاقتصاد والسياسة، لأن الجماعة خلقت نوعا من الاعتماد المتبادل داخل الأسرة الممتدة التى وضعت بداية القبيلة والتى بدأت بالتقاط الثمار ومن بعد كبرها الرعى. كانت المجتمعات بسيطة، وحجمها صغير، ولم تكن تختلف كثيرا عن مجموعات من الحيوانات الثديية، وعندما أجبر البحث عن البقاء واستمرار الناس، كان لابد من وجود فائض يستخدم فى الأيام العسيرة، وبعدها لم يكن هناك مشكلة فى التبادل والمقايضة، وكان ذلك هو بداية السوق التى كانت هى الأب الشرعى للاقتصاد.

كان الإنسان هو المخلوق الوحيد فى المملكة الحيوانية الذى عرف كيف يخرج من جماعته الصغيرة إلى تكوين جماعات أكبر، وكان الاقتصاد هو المحرك حينما زادت عمليات التبادل، وترتب على التبادل الاختراع فى تحسين السلع والبضائع، وفى أحوال بات توسيع السوق ضروريا إما من خلال الغزو أو الاتحاد. ولمن لا يعرف فإن مصر ظلت على مدى ١٦٠٠ عام على الأقل مكونة من ممالك ومجتمعات صغيرة منتشرة بين الشمال والجنوب حتى قام مينا نارمر بتوحيدها على الشكل الذى نراه الآن قبل أكثر من خمسة آلاف عام. ولم يكن كل ذلك يعنى أن السياسة كانت غائبة تماما، فقد كانت منها أشكال بدائية أجبرتها السوق أن تكبر وتزداد تعقيدا خاصة بعد أن كان ضروريا أن تختلط بالدين ومن ثم الحاجة إلى الكهنة، وبالجيوش المنظمة ومن ثم الحاجة إلى الجنرالات، وكلاهما أضاف للسياسة تعقيدات كثيرة بما فيها السيطرة والتحكم فى الاقتصاد والمجتمع أيضا. وفى ظل هذه الحالة ولدت مصر لكى تكون أول دولة فى التاريخ بالمعنى الذى تكون فيه سلطة وأرضا وشعبا بينه من الوشائج والاعتماد المتبادل والثقافة المشتركة ما يجعله مجتمعا وأمة. أصبحت «السياسة» هى الضمان من ناحية لبقاء المجتمع والدولة، و«المعجل» «Catalyst» الذى يجعل الاقتصاد يعمل فى حالة كفاءة، والمجتمع فى حالة من الأمن والأمان.


هذه المقدمة كانت ضرورية لكى نقترب مما يحدث فى مصر الآن حيث عاشت مصر أسبوعا من السعادة عندما انعقد مؤتمر «حكاية وطن» حيث توالت العروض من الرئيس والوزراء والخبراء حول الأحوال المصرية فى ماضيها القريب، وما هى عليه الآن، وما هو متوقع فى المدى القريب. لم تكن هناك أحلام معلقة فى الهواء ولكنها كانت واضحة وضوح شمس صيف فيما يراه الناس بالفعل على الأرض حيث بات جليا أن خطة الإصلاح الاقتصادى قد نجحت، وأن الدولة كانت قادرة على وضع خطة والمضى فى تنفيذها، وكان الشعب صابرا وجاهزا لقبول الصبر لكى تنجح الحكومة والرئيس فى تنفيذ البرنامج الذى جرى وضعه. ترجمة ذلك سياسيا كانت تعنى أن مصر تسير فى مسارها الذى اختارته وأعطته الشرعية وفقا لدستور ٢٠١٤، وحدث ذلك رغم وجود حرب عسكرية شنتها الإخوان المسلمون وجماعات أخرى تحالفت معهم، ورغم حرب سياسية شنتها جماعات من المعارضة فى الداخل والخارج أيضا.

الأسبوع التالى لأسبوع النجاح كان مخصصا للسياسة بامتياز فقد كانت الانتخابات الرئاسية على الأبواب، وأعلنت اللجنة الوطنية العليا للانتخابات عن فتح باب الترشح وفق قواعد حددتها تعود للدستور والقوانين المرعية. كانت النتيجة مخيبة للآمال، ولم تكن السياسة تسير وفق القامة التى وصل إليها الاقتصاد فى شكل مؤشرات كلية يقل فيها العجز فى الموازنة ويزيد فيها معدل النمو والاحتياطى المركزى، وتنخفض فيها معدلات التضخم والعجز فى الميزان التجارى والبطالة. كانت السياسة على العكس عقيمة وعاجزة ومرتبكة أيضا، وكانت البداية خروج العقيد أحمد قنصوة على كل القواعد والقوانين العسكرية لكى يرشح نفسه فكان جزاءه السجن، وأعقبها أن الفريق أحمد شفيق دخل السباق بعد غياب خمس سنوات بادئا برحلة إلى باريس لكى يبدأ حملته الانتخابية، ثم عاد إلى القاهرة فى ظروف غامضة لكى يكتشف أن بعاده جعله لا يعرف الواقع فى مصر فتراجع عن الترشح. الفريق سامى عنان بعد انسحابه فى انتخابات ٢٠١٤ عاد مرة أخرى دون استيفاء الشروط التى وضعها من قبل ورتبت استبعاده ومساءلته، ومن فرط الارتباك قرر الأستاذ محمد أنور السادات الانسحاب من انتخابات لم يدخلها من الأصل لأنه قرر الاستئذان لدخول مجلس النواب وعندما جرى إنكار الطلب وجد فى ذلك ذريعة للخروج. وبين ليلة وضحاها لم يبق فى الساحة إلا مرشح وحيد هو الرئيس السيسى ومرشح معارض واحد هو السيد خالد على الذى بات تحت ضغوط رهيبة للانسحاب ففعل؛ وبعدها قامت المعارضة التى يقودها الأستاذ حمدين صباحى بمقاطعة الانتخابات خاصة بعد أن تذكر السيد موسى مصطفى موسى أن بإمكانه دخول الانتخابات فقدم أوراق ترشحه فى الدقيقة الأخيرة.

الصورة هكذا فى «حكاية السياسة المصرية» تختلف كثيرا عن الصورة فى «حكاية وطن»، وتعبر عن خلل ناجم عن عدم التوازن بين الاقتصاد والسياسة فى مصر؛ وبينما بات ممكنا عبور صعاب وجبال من العقبات فى الاقتصاد المصرى، فإنه كان صعبا وجود مرشح رئاسى. الأكثر خطورة كان أن الخطاب السياسى العام لم يكن مرتفعا إلى مستوى عملية بناء مصر، فلم يكن معبرا عن «منافسة» على تعريف المصالح القومية، وإنما عن «خصومة»، ولم يكن الأمر يدور فى دولة مصر ووطن مصرى، وإنما يجرى فى انقسام بين حاكم ومحكوم، وحكومة وشعب، ومنتصرين ومنهزمين. اللغة باتت معبرة عن مواجهة تهديد، أو عن معاناة، أو كأن الزمان عاد بنا إلى صراع مع سلطة ونظام؛ كان ما عرف بتحالف «يونيو» الذى تولد لمواجهة الإخوان يتعرض لخطر كبير بينما الإخوان والقاعدة و«داعش»، كالبرابرة يدقون على أبواب مصر.

الذى حدث فى مصر بين أسبوع وأسبوع، أو بين الاقتصاد والسياسة، يحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق، وحتى نعرف أسباب ما حدث وهل كان ذلك راجعا إلى تشدد داخل السلطة؛ أو أنه فى الحقيقة راجع إلى تهافت المعارضة وخواء برامجها وتنظيماتها، فإنه فى الحقيقة يفضى إلى إيقاع الضرر بكل منهما. ففى الوقت الذى وضعت فيه الإصلاحات الاقتصادية مصر على أول طريق استعادة سمعتها العالمية؛ فإن الارتباك السياسى خصم منها درجات لم يكن ضروريا فقدانها. وفى السياسة كان الضرر فادحا فقد انتهت المعركة الرئاسية إلى صورة غير متكافئة كانت منطقية عندما كانت بين الرئيس السيسى والسيد حمدين صباحي؛ أما الآن وبعد الطريق الذى قطعناه فإن مصر تستحق أكثر من ذلك ليس لأن الرئيس السيسى لديه أغلبية وقاعدة انتخابية مضمونة، وإنما لأن المواطن المصرى كان يستحق التعامل مع قيادات ومشروعات قيادات جديدة تطمئن الدولة إلى مستقبلها فى عام ٢٠٢٢!.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر