عادت القدس مرة أخرى لكي تحتل صدارة الاهتمام العربي، ومعها بدا كما لو أن «القضية الفلسطينية» تستيقظ من نوم عميق. خرجت المظاهرات محتجة، ونُشرت البيانات الرافضة والمستنكرة، وركب الموجة كل من لديه موقف من النُّخب العربية الحاكمة، وكل من لديه موقف من الولايات المتحدة والغرب في عمومه. ولا غرو أن القدس تحتل مكانة مقدسة لدى العرب، مسيحييهم ومسلميهم على السواء؛ ففيها توجد كنسية القيامة، وإليها أُسري بالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم. ورغم أن كل ذلك من الثوابت المعروفة لدى كل العرب، فإن عودة الموضوع للصدارة مجدداً، يدعو إلى التساؤل حول أسباب غيابها طوال هذه السنوات، وهل كان يحتاج العرب إلى قرار من الرئيس الأميركي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس لكي يعرفوا باحتلال المدينة المقدسة، أم أن الغضب هو محصلة ليس فقط للسخط على أميركا وإسرائيل، وإنما أيضاً على الذات التي بدا أن استيقاظها مؤخراً قائم على إدراك أن الواقع تغير كثيراً، سواء كان ذلك في المنطقة العربية كلها التي عاشت حمّامات دم خلال السنوات الماضية، أو في الحالة الفلسطينية المنقسمة على ذاتها. مؤسسة الأزهر في مصر أعلنت في مؤتمرها المؤثر في خصوص القدس أنها سوف تجعل تدريس مادة دراسية عن القدس جزءاً من منهجها لتعريف الأجيال الجديدة بالقضية الفلسطينية والقدس الشريف في قلبها. كان هذا إدراكاً نرجو ألا يكون متأخراً أن العالم العربي كان مهموماً بكثير من القضايا خلال السنوات القليلة الماضية؛ لكن المدهش أن هذه القضايا لم تنته بعد، فهل يمكن إحياء «القضية» بينما أسباب الاختفاء لا تزال باقية؟!
التعامل العربي مع الموضوع ظل على حاله، فهناك المدرسة القانونية التي تضم رجال قانون ودارسيه ومُدرّسيه، وهؤلاء راحوا إلى باب الاحتلال في القانون الدولي وقرارات منظمات الأمم المتحدة، وخلصوا جميعاً إلى أن القرارات الأميركية وتلك الإسرائيلية باطلة، وبالطبع فإن ما بُني على باطل فهو باطل «ولا يترتب عليه أي أثر»: «وهو والعدم سواء». وهناك المدرسة الدبلوماسية، التي فضلاً عن معرفتها الكاملة بالقرارات الدولية، فإنها لجأت إلى الطريق نفسها التي قادت إلى القرارات السابقة، وجرت معركة في مجلس الأمن أجهضها «الفيتو» الأميركي، لكن نصراً سياسياً حدث عندما صوتت 14 دولة مع القرار المصري، الذي بعد ذلك حصل على أغلبية 128 صوتاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة. هكذا، أضيف قرار مهم للقرارات المهمة السابقة، ونفضت الغالبية من دول العالم يدها من «القضية» بعد أن قامت بواجبها، وبعد أيام من التحرشات الدبلوماسية بخصوص «القضية، اجتمع العالم كله بأغلبية 15 عضواً في مجلس الأمن على فرض عقوبات على كوريا الشمالية!... وهناك المدرسة السياسية التي كانت حريصة على تسجيل الموقف برفضها القرار الأميركي على لسان حكومات الدول العربية والإسلامية أيضاً التي تسارعت 86 دولة منها إلى مؤتمر الأزهر لكي تعبر عن رفضها، ليس فقط القرار الأميركي، أو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وإنما أيضاً إسرائيل ذاتها.
وبالطبع، فإن هناك فارقاً كبيراً بين «الموقف» الذي تعلن به الدول رفضها أو قبولها لأمر، والسياسة التي تحدد فيها الدول سلسلة الخطوات التي سوف تتخذها لتغيير واقع ما لا ترضاه، وتراه ماساً بمصالحها الحيوية. هذه السياسة لا يمكن وضعها ما لم توضع مجموعة أمور في الحسبان: أولها أن هناك دولاً عربية في حالة سلام مع إسرائيل، فضلاً عن دول أخرى أقامت علاقات معها في وقت أو آخر؛ وفيما يتعلق بالسلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية فإن علاقتها مع إسرائيل كانت ولا تزال محكومة بما هو مسمى «اتفاقيات أسلو»، وهذه لا الفلسطينيون ولا الإسرائيليون أعلنوا عن إلغائها رغم شكوى الطرفين المرير بأن الطرف الآخر يخالف هذه الاتفاقيات. وثانيها أنه بعد كل الإعلانات القانونية والدبلوماسية والسياسية المشار إليها، فإن الدول الغربية التي ناصرت الموقف العربي، وحتى الولايات المتحدة التي خالفتها، فإن لهم علاقات وثيقة مع الدول العربية والإسلامية تتعلق بمصالح كثيرة فيها السلاح والغذاء والدواء والتشارك في عداء أطراف أخرى في المجتمع الدولي. وثالثها أن جدول الأعمال العربي والإسلامي لا يزال على ما كان عليه قبل القرار الأميركي؛ فقضايا سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، واليمن، وأفغانستان، والصومال والإرهاب وأسعار النفط، فضلاً عن التنمية الاقتصادية والإصلاح الاقتصادي، تفرض نفسها حتى لو كانت القلوب تنبض بقضية القدس.
الحقيقة المُرّة ظلت دوماً أن العناصر الحاكمة للقضية الفلسطينية ثلاثة: القوة، والحقائق على الأرض، والتحالفات الدولية مع أطراف فاعلة وقادرة. الثلاثة عملت دائماً لصالح إسرائيل، فبالعلم والتعليم والتكنولوجيا والحداثة صارت من أقوى دول المنطقة، وموقعها ظل دائماً، مهما كان الخلاف القانوني أو الأخلاقي، في قلب العالم الغربي، ومؤخراً فإنها صارت قريبة من روسيا والصين والهند. ولكن أقوى أسلحة إسرائيل ظلت دوماً قدرتها على خلق الحقائق على الأرض، من أول الهجرات التي بدأت مع الحرب العالمية الأولى ولم تنته حتى الآن، حيث ظل الاستيطان وسيلة إسرائيل للاستيلاء على فلسطين، وبعد الاستيلاء الكبير في حربي 1948 و1967، فإن لها الآن 500 ألف مستوطن في الضفة الغربية، وما بين 40 و44 في المائة من القدس الشرقية. العرب في ناحيتهم لديهم ثلاث حقائق على الأرض: الأولى، أن جماعة منهم قدرها 150 ألف فلسطيني قبضت على الجمر وبقيت في فلسطين عام 1948، وهذه أصبحت الآن مليوناً وستمائة ألف، أو قرابة 21 في المائة من سكان إسرائيل ولهم في الكنيست 13 عضواً. الثانية، أن قيام السلطة الوطنية الفلسطينية ساهم في بقاء 4.4 مليون فلسطيني، فأصبح هناك بين النهر والبحر 6 ملايين فلسطيني غير هؤلاء خارج فلسطين، في مقابل 6 ملايين يهودي. والثالثة، أنه حتى وقت كتابة هذه السطور، فإن الغالبية في القدس الشرقية أو 55 في المائة منها لا تزال فلسطينية، وهم يقفون في مواجهة موجات عاتية من الاستيطان الإسرائيلي.
الحل لهذه المعادلة الصعبة لخلق الحقائق على الأرض جاء به الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مؤتمر الأزهر الشريف عن القدس، والذي حثّ فيه العالمين العربي والإسلامي على الذهاب إلى القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة. فمن يحب القدس عليه أن يذهب إلى الصلاة فيها، ومن يرِد إنقاذ الفلسطينيين فعليه وضع الديموغرافيا التي تعمل لصالحهم في مواجهة الجغرافيا التي يعرف الإسرائيليون كيف يستغلونها لصالحهم. للأسف، فإن قرار الأزهر كان لا ذهاب إلى القدس وهي تحت الاحتلال، ولا صلاة فيها للمسلمين والمسيحيين معاً ما دام كان هناك وجود إسرائيلي، والنتيجة هي أن تحصل إسرائيل تماماً على ما تريد، وهو أن تجد الفراغ الذي تملأه، وأن تقطع بين فلسطين والمحيطين العربي والإسلامي من ورائها، ولا بأس من وقت إلى آخر أن يحصل العرب على قرار جديد يدين إسرائيل والولايات المتحدة وبعدها يعود كل شيء إلى ما كان عليه.