كركوك
رغم أن النظام السياسي بعد عام 2003 بناه الدستور على أساس المكونات الطائفية والعرقية، لكن تقدمت القومية الكردية على القوميات غير العربية الأخرى كالتركمانية في شراكة الحكم الرئيسية، بل إن الشراكة الثنائية التي تمت وفق صياغة التحالف الكردي الشيعي واستحوذ الأكراد على مكانة متميزة لا تقاس بغيرها من القوميات الأخرى.
لو كانت قسمة “المكونات” عادلة لوضعت للتركمان مكانة مرموقة إلى جانب الأكراد والشيعة والسنة. لكن اللعبة الجائرة حرمتهم حتى في مقاييس التوزيع الطائفي للشراكة في الحكم. وتحولوا إلى أقلية صغيرة ضائعة داخل لعبة الكبار. مع أنهم في مقاييس المعادلة الطائفية يستطيعون خلق المشاكل وفرض المطالب.
جزء من تاريخ العراق
هناك معطيات تاريخية وجيوسياسية من المهم استحضارها ضمن الواقع السياسي الحالي لحين ما تتراجع هذه الموجة الطائفية وتتكسّر ويعود العراق بلدا مستقرا بهويته الوطنية الشاملة. حمل التركمان عمقا تاريخيا هائلا في انتمائهم للعراق أواخر الدولة الأموية وبداية العصر العباسي وأسسوا دولتهم (السلجوقية عام 1037م).وكانت حربهم ضد الدولة البويهية جزءا ممّا اعتبره المؤرخون علامة من علامات الصراع والنفوذ على العراق من أجل تهديم الدولة العباسية وهي في أوج ازدهارها. وتكرر مثال الهيمنة بعد عدة سنوات حين أسّس التركمان دولة الخروف الأبيض التي أزاحها إسماعيل الصفوي بعد احتلاله لبغداد عام 1508م وتم إلحاق العراق بالإمبراطورية الفارسية.
وساهم التركمان في بناء الدولة العباسية، فشيدوا المدرسة المستنصرية ببغداد والمنارة الحدباء في الموصل التي تم هدمها في المعركة ضد داعش وكذلك خان مرجان ببغداد عام 1358م. وشارك التركمان بقوة إلى جانب إخوانهم العراقيين في العصر الحديث في ثورة العشرين ضد الاحتلال الإنكليزي في مدينة تلعفر التي تعود هذه الأيام للواجهة السياسية كمركز يعكس حالة الصراع الإثني والعرقي حولها؛ ويحاول المخطط الإيراني أن يجعلها دعامة لوجستية للخط الاستراتيجي طهران – سواحل البحر المتوسط.
وساهم التركمان أيضا في تأسيس الجيش العراقي وكان المؤسسون ضباطا لدى الدولة العثمانية في إسطنبول. وظهر قادة بواسل من بينهم خليل زكي إبراهيم باشا وغازي الداغستاني وعمر علي ومصطفى راغب باشا الذي أصبح قائدا للجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948. وبرزت من بين تركمان العراق شخصيات أدبية وعلمية مثل الشاعر فضولي البغدادي والعلامة مصطفى جواد والشاعر عبدالوهاب البياتي وغيرهم كثيرون.
ويشعر التركمان بأنهم تعرضوا للتنكيل والاضطهاد العنصري، فيقولون إنهم تعرضوا لثلاث مجازر في العصر الحديث: مجزرة كركوك على يد الإنكليز عام 1924 ومجزرة كركوك على يد الشيوعيين عام 1959 ومجزرة آلتون كوبري عام 1991 على يد نظام صدام حسين.
تسويف القضية التركمانية
لدى التركمان في ظل الأزمة السياسية الحالية الكثير من أسلحة الضغط من بينها موقعهم الجيوسياسي المهم على خط التماس ما بين العرب والأكراد، إضافة إلى ارتباطهم الديموغرافي بمدينة كركوك. وكان مصدر تسويف القضية التركمانية مقصودا لأسباب وعوامل سياسية فئوية طائفية، أهمها لكي لا تصغر حصص الشراكة وتوزع إلى أربعة أقسام: عرب وأكراد وشيعة وتركمان.
السبب المهم الآخر هو حتى يبقى التسيّد للأحزاب الطائفية المعنونة “بالإسلام السياسي” وفق وهم مفاده أن حضور التركمان سيضعف اللعبة لأن قياداتهم السياسية التي كان لها دور معروف داخل المعارضة العراقية الخارجية قبل عام 2003 لم تعرف عنها مواقف عنصرية متشنجة أو دينية إسلامية مذهبية بل كانت دعواتها منسجمة مع التيار الوطني العراقي الليبرالي لقيام عراق ديمقراطي تعددي يقوده نظام مدني يعزز المواطنة العراقية.
وفي مقابل الإقصاء عملت القيادات العراقية الشيعية التي هيمنت على الحكم على استقطاب التركمان من خلال الحديث عن أن حقوقها محفوظة وفق الدستور كمكون “رابع” من مكونات العراق بعد السنة والأكراد والشيعة، لكنها ظلمت حين تقدمت “الطائفية السياسية” وجرت عمليات تفكيكها وتوزيعها على قالبي السنة والشيعة.
يستحق المكون التركماني كغيره من أبناء الشعب العراقي مكانته اللائقة في عراق ديمقراطي. لكن في ظل التقسيم السياسي ما بعد 2003، وجد التركمان أنفسهم منقسمون قسرا، فالتركماني الشيعي عليه أن ينقاد ويوالي الزعامات والأحزاب الشيعية، والسني عليه أن يذهب إلى القيادات السنية التي انشغلت بهموم حصصها وشراكتها التي ظلت مهزومة على مدى عمر العملية السياسية. وهذا الانقسام من أبرز مساوئ المحاصصة الطائفية، فلو أسس النظام السياسي على المواطنة والهوية الوطنية والمساواة في الحقوق والواجبات لما ظهرت مثل هذه المشكلة السياسية إلى جانب المشاكل الأخرى.
أمام حالة الهيمنة السياسية الطائفية تراكمت مشكلات التركمان ولم يتمكن ممثلوهم الذين ارتضوا بحصصهم الصغيرة المقررة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية أن يرفعوا صوتهم بقوة ويطالبوا بتغيير المعادلة الظالمة.
ويبدو من يريد إلقاء الضوء على قضيتهم الحساسة وفي هذه الظروف كمن يغرّد خارج السرب، أو يحاول تخفيف حدة الأضواء على العقد الرئيسية في مشكلة العراق السياسية. رغم أن الأحداث الراهنة ومتطلبات الإصلاح السياسي لمرحلة ما بعد داعش تتطلب الاهتمام بمكانة التركمان ومسؤولياتهم كقطاع عراقي مهم له دوره في مقدمات التحول المطلوب، خصوصا بعد أن برزت قضية كركوك إلى الواجهة وهي الموطن الرئيسي للتركمان.
وأدت عملية “الدمج الطائفي” داخل الجناحين السني والشيعي إلى تضييق الخيارات أمام القيادات التركمانية الوطنية فلجأوا إلى الخارج (التركي) لاعتبارات قومية وسياسية رغم هواجس الخوف من اتهامهم بالولاء لتركيا، التي لا تتمتع بعلاقات إيجابية مع جارها العراقي.
النزاع حول كركوك
أيد التركمان العملية العسكرية التي قادتها قوات الحكومة المركزية في أكتوبر 2017 لاستعادة مدينة كركوك من الأكراد الذين سيطروا عليها سنة 2014. وجاءت هذه العملية عقب الاستفتاء حول استقلال كردستان العراق. وكانت القيادات السياسية التركمانية أعلنت في وقت مبكر رفضها لهذا الاستفتاء وأكدت عراقية كركوك والتزمت بشراكة العرب والأكراد في هذه المدينة.
وبعد دخول القوات الأمنية الحكومية العراقية لهذه المدينة تغيّرت موازين القوى والأوضاع اللوجستية، ورحلت قيادات البيشمركة الكردية وهيمن العرب والتركمان على الإدارات السياسية للبلدة، وبذلك استعاد التركمان أنفسهم، وهو يحاولون التحرك للهيمنة التركمانية على كركوك مستندين في هذا الأمر على معلومات تاريخية يحفظونها تقول بغالبية نفوس التركمان منذ سنوات ما قبل نظام صدام حسين، إلا أن عرب كركوك يشككون في هذه الوقائع ويدعون أن الغالبية للعرب.
وستبقى العقدة التركمانية حاضرة في المحاولات التي تجري حاليا لإعادة الحياة بالحقائق الدستورية العراقية التي وضعت لكركوك صيغة خاصة كمنطقة “متنازع” عليها وبحاجة إلى تعداد سكاني يحدد الوضع الديموغرافي لها. وهناك أحاديث حول قيام إقليم تركماني يضم محافظات كركوك وطوزخرماتو وتلعفر.
ولعل هذه المشكلة ستبرز خلال الأيام المقبلة، حيث ستجري الانتخابات العامة في البلاد حسب التقديرات الأولية في الثاني عشر من مايو 2018. كما ستظهر هذه العقدة بقوة حيث الصراع قائما حول مدينة تلعفر التي طرد منها داعش وهناك تعقيدات كثيرة حول هوية سكانها وعقيدتهم الشيعية والسنية وسيتصاعد هذا الصراع حولها خلال الأيام المقبلة خصوصا مكانتها الاستراتيجية والقومية من قبل الجارة تركيا، إلى جانب وضع سنجار المجاورة لها والتي يهيمن عليها الأكراد وحزب العمال الكردي المهدد للأمن القومي التركي.
إن وجود التركمان وتجذّرهم الاجتماعي في العراق سيساعدهم دون شك على لعب دور في الحياة السياسية العراقية إذا ما تراجعت الشحنة الطائفية.