مدفع عثماني يطلق منه أردوغان أوهامه
يضم السودان جزيرة مرجانية عريقة على ساحل البحر الأحمر شرقي البلاد اسمها سواكن، وتقول أنقرة إن الرئيس السوداني كان قد منحها إلى تركيا لتديرها لفترة زمنية غير محددة. ويذكر أن الجزيرة كان قد غزاها السلطان العثماني سليم الأول، وارتبطت فترة وجوده بمجازر وأعمال قتل جماعي ارتكبت بحق السودانيين حينها.
تردد ذكر اسم جزيرة سواكن السودانية في الأيام الأخيرة على وسائل الإعلام، وذلك إثر زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السودان وإعلانه من الخرطوم أن الرئيس عمر البشير قد سلّم الجزيرة الواقعة في البحر الأحمر شرقي السودان لتركيا كي تتولى “إعادة تأهيلها وإدارتها” لفترة زمنية لم يحددها.
وقال السفير التركي لدى الخرطوم عرفان نذير أوغلو “نريد إحياء جزيرة سواكن كما كانت في التاريخ، وهدفنا إنهاء ترميم الجزيرة في أقرب وقت وتحويلها إلى مركز سياحي”.
وتقع جزيرة سواكن على الساحل الغربي للبحر الأحمر شرقي السودان، عند خطي عرض 5.19 درجة شمال، وطول 5.37 درجة شرق، وترتفع عن البحر 66 مترا، وتبعد عن الخرطوم بحوالي 560 كيلومترا. وتبلغ مساحة الجزيرة التي تنوي السلطات التركية السيطرة عليها 20 كلم مربعا.
وورد اسم سواكن في مؤلفات الرحالة العرب مثل ابن بطوطة، وارتبط اسمها بأنها كانت معبرا لهروب العديد من أمراء بني أمية من بطش الدولة العباسية.
وتقول تقارير إن الجزيرة كان يقطنها ما يقارب من 50 ألف نسمة، وفي الفترة ما بين 1909 و1922 هاجر معظم السكان إلى مدينة بورتسودان، الواقعة على بعد 40 ميلا إلى الشمال منها.
وأثّرت عوامل الطبيعة في معظم مباني الجزيرة وتعرض معمارها للتلف بسبب الاعتماد على الحجر الجيري، ويسكن ما تبقى من سكان الجزيرة في الوقت الحالي في أكواخ. وتعد الجزيرة منطقة تاريخية غنية بآثارها التي في أغلبها منازل تمتد من القرون الوسطى مبنية من الحجارة المرجانية ومزدانة بالنقوش والزخارف الخشبية.
وقوف على الأطلال العثمانية
وفي القرن السادس عشر الميلادي غزاها السلطان العثماني سليم الأول، وأصبحت سواكن مركزا للأسطول العثماني في البحر الأحمر، وضم الميناء مقر الحاكم العثماني لمنطقة جنوب البحر الأحمر.
وحرص الرئيس التركي خلال زيارته للسودان على زيارة جزيرة سواكن، متوهّما بأنه يقتفي بذلك خطى “أجداده العثمانيين” الذين حكموا المدينة أيام الخلافة، وذلك في زيارة وصفها الإعلام الموالي بالتاريخية وبدأها يوم 24 ديسمبر 2017.
وزار أردوغان وقرينته المنطقة بضيافة الرئيس البشير، واعتبرت بالنسبة إلى الإعلام الموالي له في تركيا زيارة “ملهمة ومثيرة”، وأطنبت صحف تركية رسمية في الحديث عن أنه من المتوقع أن تجعل هذه الزيارة جغرافيا جزيرة سواكن وتاريخها “أكثر إثارة بعد أن أصبحت آثارها موعودة بالترميم من جانب أنقرة”.
ولسواكن أهمية استراتيجية تكمن في كونها أقرب الموانئ السودانية إلى ميناء جدة الاستراتيجي السعودي على البحر الأحمر، حيث تستغرق رحلة السفن بين الميناءين ساعات قليلة.
وبين سواكن السودانية وجدة السعودية تاريخ مشترك وقرابات وصلات أسرية، حتى أن العمارة متشابهة بينها وبين جدة القديمة إلى حد بعيد.
ومن الجدير ذكره في ما يتعلق بالأهمية الاستراتيجية للمنطقة التي تقع فيها جزيرة سواكن، أنه وخلال الأعوام القليلة الماضية، بات السباق كبيرا على البحر الأحمر الذي يعتبر ممرا لنحو 3.3 ملايين برميل من النفط يوميا، كما أنه يشكل المعبر الرئيس للتجارة بين دول شرق آسيا، ولا سيما الصين والهند واليابان مع أوروبا.
وهذا “الترميم الجغرافي والتاريخي” لجزيرة سواكن السودانية الذي يتحدث عنه إعلام النظام التركي، جعل المديرية العامة للأرشيف العثماني، تكشف عن وثائق تقول بأنها تتضمن أبرز أنشطة الباشوات العثمانيين في جزيرة سواكن السودانية، في الفترة ما بين 1517 و1882، وأهمية موقع الجزيرة الاستراتيجي على الطريق الواصل بين الدولة العثمانية والحبشة (إثيوبيا)، ومعلومات أخرى متعلقة بأنشطة معينة جرى تنفيذها خلال تلك الفترة، فيما أظهرت الوثائق اللاحقة أهم الإجراءات التي اتخذتها قوات الأمن لضمان أمن وسلامة المنطقة طوال فترة الحكم العثماني.
ومن ناحية أخرى، تعرضُ بعض الوثائق المحررة عام 1854 معلومات عن أعمال الترميم التي أجريت على مقر قائمّقامية منطقة سواكن وبعض الأحياء في الجزيرة.
وتظهر الوثيقة العثمانية المقدّمة إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) العثماني صقللي محمد باشا، والمعنونة بـ”أحكام بكلربك الحبشة”، والعائدة للقرن السادس عشر، أن القبائل المحلية هاجمت عام 1571 جزيرة سواكن، إلا أن قوات الأمن اتخذت الإجراءات الكفيلة بضبط الأمن.
فيما تحتوي الوثائق التي تضم مراسلات موجهة من قائمّقامية سواكن والسلطات القضائية هناك إلى الصدر الأعظم في الأستانة (العاصمة -إسطنبول) على توصيات بضرورة تجديد مبنى الجمارك وإنشاء ميناء جديد، على أن تدفع التكاليف من قبل إدارة الجمارك في جدة بولاية الحجاز العثمانية.
بين سواكن السودانية وجدة السعودية تاريخ مشترك وقرابات أسرية، حتى أن العمارة متشابهة بينها وبين جدة القديمة
كما تتضمن الوثائق توصيات من الإدارات المحلية في سواكن حول ضرورة تعزيز التحصينات العسكرية لصد أي هجمات خارجية محتملة في المستقبل، وضرورة إرسال كميات من الذخيرة، فيما تشير الوثائق إلى أن ضعف الإمكانات الاقتصادية منعت السلطات المحلية في سواكن من القيام ببعض تلك الإنشاءات والتحصينات اللازمة.
وحرصت البروباغندا السياسية للرئيس التركي والمبنية على وهم الربط بين السلطنة العثمانية وحلم استعادة الخلافة على الطريقة الأردوغانية على إيجاد الصلة وتأكيد الحرص من مركز الحكم العثماني في الأستانة على أمن واستقرار الجزيرة السودانية في البحر الأحمر آنذاك. وتحاول الدعاية الأردوغانية من خلال الوثيقة المشار إليها، أن تركّز على أن الدولة العثمانية لم تهمل جزيرة سواكن، رغم الأزمات الاقتصادية التي كانت تعاني منها بسبب حرب القرم التي كانت تخوضها ضد روسيا القيصرية.
وتكشف وثيقة صادرة عام 1864، وركّز الإعلام التركي عليها بشدة، وهي متعلقة بنيل شركة “العزيزية المصرية” آنذاك، امتياز بناء شبكة السكك الحديدية ما بين الخرطوم وجزيرة سواكن.
وفي هذا الصدد، قال المؤرخ التركي عثمان كوسه، إن جزيرة سواكن دخلت الحكم العثماني بعد فترة وجيزة من فتح السلطان ياوز سليم (سليم الأول) مصر عام 1517.
وأضاف كوسه أن السيطرة على سواكن وبناء قلعة هناك كانا يهدفان إلى منع تنامي النفوذ البرتغالي في المنطقة، حيث كانت البرتغال وقتها واحدة من القوى الاستعمارية الكبرى التي تهدف للتوسع في المنطقة.
وأشار إلى أن السيطرة على سواكن أتاحت للإدارة العثمانية ضمان سلامة التجارة ووقف التقدم البرتغالي في المنطقة، وضمان أمن البحر الأحمر والمتوسط ووقف تنامي التهديد البرتغالي.
ولفت كوسه إلى أن العثمانيين نجحوا، خلال فترة وجيزة، في تحويل جزيرة سواكن إلى ميناء يستقبل التجار القادمين من الهند والداخل الأفريقي والباشوات المسافرين إلى اليمن والحبشة لتأدية مهامهم، والحجاج الذاهبين لتأدية فريضة الحج في الأراضي المقدسة.
ونفخت السلطات المحلية السودانية بدورها في نفس القربة الدعائية لصالح أردوغان، وفي الإطار نفسه، أيّدت قرار “ترميم جزيرة سواكن”، وقال معتمد سواكن خالد سعدان “إن إعادة بناء المدينة التاريخية تنشّط السياحة والاستثمارات”.
وحمّل سعدان المسؤولية عن دمار سواكن للاحتلال البريطاني الذي هدّم معالمها لإخفاء هوّيتها الإسلامية، بقوله إن “سواكن كانت جزيرة إسلامية، أهملت ودمرت من المستعمر للقضاء على معالمها الإسلامية”.
وقال عمدة “سواكن والأرتيقا” محمود الأمين إن “سواكن كانت عاصمة الديار الإسلامية على ساحل البحر الأحمر وشرق أفريقيا”، وذلك استرضاء لحلم الخلافة الذي يجول في خاطر أردوغان.
وتعهد الرئيس أردوغان بإعادة بناء “الجزيرة التاريخية”، وعلى الفور وجّه الرئيس عمر الحسن البشير بتكوين لجنة لمناقشة وضع الجزيرة مع أصحاب المنازل وشراء الأرض منهم على أن يتم تعويضهم من قبل الحكومة الاتحادية.