احتجاجات الاكراد
لم يكن أمام الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح وقتا كافيا يمكّنه من بناء مشروع بديل في اليمن، وكان يحلم في أيامه الأخيرة بأن يشكل قوة توازن حقيقية في مواجهة النفوذ الإيراني متمثلا في ميليشيات الحوثيين. وشعر مسؤولون في الحرس الثوري الإيراني بضعف صالح، فلم يمهلوه الفرصة لإعادة الوقوف على قدميه مرة أخرى.
وقدمت هذه الاستراتيجية الإيرانية مفهوما جديدا لإدارة النفوذ في بلد بعيد نسبيا عبر اقتناص الفرص التي تلوح دون تردد، تاركة الميليشيات التابعة لها على الأرض كقوة منفردة في العاصمة صنعاء دون منازع.
وأدى نجاح هذه الاستراتيجية إلى محاولة تطبيقها مرة أخرى في تشغيل طريق استراتيجية طويل يربط الأراضي الإيرانية بالبحر المتوسط مباشرة، دون تضييع وقت.
ويقول دبلوماسيون غربيون إن إيران “تبدو على عجلة من أمرها”. وهذا الإسراع بقطف الثمار هو محور الاستراتيجية الإيرانية في إقليم كردستان العراق، إذ تعصف احتجاجات شارك فيها الآلاف بحكومة تترنح تحت ضغط فشل استفتاء 25 سبتمبر الماضي على استقلال الإقليم.
ورأس الحربة في تصفية العملية السياسية الكردية هو حزب كوران (حركة التغيير) الذي يتقاسم النفوذ في السليمانية مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي أسسه الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني.
وتحاول حركة التغيير، المنشقة عن حزب الطالباني، توظيف الاحتجاجات عبر دعمها، إذ أعلنت منذ البداية تبنيها ومساندتها، بعدما أقدم المحتجون على حرق مقرات تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يتزعمه مسعود البارزاني.
وتشعر إيران بأن آل البارزاني يمرون بأضعف حالاتهم على الإطلاق. ويقول مراقبون عراقيون إن “الإيرانيين يرون أن مسعود البارزاني بات كالثمرة التي أينعت، وعلى ما يبدو حان وقت قطافها، عبر الإطاحة بعقود من سيطرة العائلة على مقدرات أكراد العراق، أو على الأقل عزلها عن المشهد السياسي”.
إطباق من جهتين
تملك إيران نفوذا واسعا في السليمانية، منذ انهيار الثورة الكردية عام 1975، إذ بدأ الطالباني، الحليف التاريخي للإيرانيين في شمال العراق، بعدها بعام واحد في تنظيم المعارضة المسلحة ضد بغداد.
وساعد هذا النفوذ كثيرا في إجهاض محاولة الاستفتاء على استقلال الإقليم الكردي من قبل أن تولد. لكن إيران كانت تنظر دائما لعلاقتها مع أكراد السليمانية على أنها نفوذ منقوص.
وقد ولّد هذا النفوذ أساسا لعزل نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وبعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ساعد هذا النفوذ في خلق توازن للقوى بين إيران وتركيا في إقليم كردستان.
وشكلت عائلة مسعود البارزاني حجر عثرة دائما في وجه التمدد الإيراني عبر تبديل التحالفات بين بغداد وأنقرة في انتظار الفرصة السانحة لاقتناص استفتاء ملتبس انتهى إلى كارثة محققة.
ولكن قبل ذلك كانت إيران قد بنت نفوذا جديدا في الموصل، على الجهة المقابلة لأربيل، بعدما تمكنت القوات العراقية، بمساعدة ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران، من القضاء هذا العام على تنظيم داعش في ثاني أكبر المدن العراقية.
وبذلك أصبح الخناق محكما من الجانبين على حكومة أربيل، التي اقتربت كثيرا من انهيار سياسي واقتصادي منذ فشل الاستفتاء.
والإثنين، قررت السلطات الإيرانية إعادة فتح الحدود المغلقة مع الإقليم منذ الاستفتاء. ولم يستغرق الأمر إلا ساعات قليلة حتى اندلعت الاحتجاجات في السليمانية. ويطالب المحتجون، الذين سقط منهم إلى الآن 6 قتلى والعشرات من الجرحى، بإقالة الحكومة ودفع رواتبهم المتأخرة منذ ثلاثة أشهر وتحسين الوضع الاقتصادي المتردي منذ أن قطعت حكومة بغداد الميزانية عن إقليم كردستان عام 2014، نتيجة قيام حكومة الإقليم بتصدير النفط إلى تركيا دون موافقة الحكومة العراقية.
ولكن أزمة أربيل تضاعفت خصوصا بعد إعلان القوات العراقية، في أكتوبر الماضي، استعادة مدينة كركوك التي كانت آبارها تمد أربيل بنحو ثلثي النفط الذي تصدّره للخارج.
وشرّعت هذه الخسائر الأبواب أمام إيران للعودة إلى التجربة مرة أخرى، واضعة صوب عينيها هذه المرة تدمير البنية السياسية والعسكرية للبارزاني، وتفادي هزيمة عام 1996.
ووقعت الهزيمة على أيدي الجيش العراقي، بعدما استنجدت أربيل بصدام حسين الذي أنقذ الإقليم من غزو إيراني وشيك، بالتعاون مع الطالباني، الذي كان يأمل وقتها في الحكم منفردا.
تجد إيران الفرصة سانحة دوليا أيضا، فقد كان الاستفتاء خطأ فادحا وقع فيه البارزاني، كما مثل قطيعة مع قوتين عظميين هما إيران وتركيا، ودفع الولايات المتحدة ودول أوروبية عدة إلى نزع مظلة الحماية الاستراتيجية التي كانت قد منحتها لأربيل منذ الغزو الأميركي.
توافق دولي
أدى تخلي الولايات المتحدة عن البارزاني، بعدما حاول وزير الخارجية ريكس تيلرسون تقديم مخرج له خلال زيارة خاطفة إلى أربيل قبل عقد الاستفتاء بساعات قليلة، إلى تراجع رصيد آل البارزاني، الذين لم يكترثوا لمعارضة السليمانية لإجراء الاستفتاء في مواجهة إيران.
والثلاثاء أعلن مصدر قيادي في إقليم كردستان العراق عن اندلاع معارك عنيفة بين قوات البيشمركة والحشد الشعبي في منطقة مخمور، جنوب غرب مدينة أربيل.
وتقع مخمور إلى الجنوب الغربي من أربيل، في منطقة تسيطر عليها ميليشيات الحشد الشعبي وصولا إلى الموصل في الشمال الغربي. وتحاول الميليشيات، التي ساعدت القوات العراقية في السيطرة على مدينة كركوك، استغلال الاحتجاجات من أجل الاشتباك مع قوات البيشمركة لاستنزافها.
ويقول محللون غربيون إنه لو حدث ذلك فسيتم بتوافق بين تركيا وإيران معا كفرصة سانحة للقضاء تماما على أي فرصة للاستقلال الكردي في العراق، التي يتخوف منها الجانبان على تماسك الجبهات الداخلية في البلدين.
وأكثر المتخوفين هي تركيا، إذ تمكنت “قوات سوريا الديمقراطية”، التي يهيمن عليها الأكراد السوريون وتحظى بدعم عسكري من واشنطن، من الوصول إلى الجانب الآخر من الحدود مع سوريا على حواف دير الزور، كما لا تزال تسيطر على مساحات كبيرة في الشمال والشمال الشرقي لسوريا، وهو ما يضع تركيا تحت ضغوط أثّرت مباشرة على تحالفها مع الولايات المتحدة.
ولن تجد إيران أفضل من الآن لتوجيه ضربتها القاضية والإطاحة بآل البارزاني. ويقول دبلوماسيون “الإيرانيون جربوا كثيرا في كردستان العراق وفشلوا، لكن يبدو أن خطتهم مع صالح ستأتي بنتائج مختلفة”.