التعليم أصبح تجارة تدر أرباحا مالية
يستند الكثير من المعارضين لفكرة إلحاق بعض الأسر العربية أبناءها بمدارس خاصة وأجنبية إلى اعتراف أشار إليه معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، مفاده أن المدارس الأميركية في البلاد العربية والإسلامية ليست مجرد صروح تعليمية رفيعة المستوى، بل “سلاح سري في معركة الولايات المتحدة الأيديولوجية لأمركة المجتمعات وتغيير هوية أبنائها”.
صحيح أن غالبية الناقمين على وجود مدارس أجنبية، ربما لم يقرأوا هذا الاعتراف الذي نشره الباحث روبرت ساتلوف مدير قسم السياسة والتخطيط في معهد واشنطن، لكنهم بنوا وجهة نظرهم على اضمحلال اللغة العربية والثقافة والارتباط الفكري والمجتمعي عند بعض خريجي هذه المدارس وانتهاجهم سلوكيات تبدو معاكسة لعادات وتقاليد مجتمعاتهم.
وقال ساتلوف في تقريره إن المدارس الأميركية تعتمد بالأساس على مبدأ اختلاط الذكور بالإناث في جميع المراحل الدراسية، وفرْض نمط الحياة الأميركية على طلابها العرب من خلال الترويج للثقافة الغربية وأسلوب الحياة المتحررة وعدم التقيد بالعادات والتقاليد المجتمعية.
وإذا كانت نسبة الطلاب الملتحقين بالتعليم الخاص والأجنبي في مصر لا تتجاوز 6.5 بالمئة تقريبا من مجمل الموجودين في المدارس، فهذه طبقة ليست بالقليلة، بالنظر إلى عدد السكان (نحو 100 مليون نسمة الآن) وقد تضاعفت أعدادهم كل عام منذ انتشار هذا النوع من التعليم في مصر قبل نحو 35 عاما.
وحسب قاعدة البيانات الرسمية لوزارة التربية والتعليم في مصر لهذا العام، فإن هناك 7777 مدرسة خاصة، أما إجمالي عدد المدارس الدولية فيبلغ 768 مدرسة موزعة على المحافظات المصرية، وتتنوع جنسياتها بين الأميركية والألمانية واليابانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والروسية والكندية.
ثقافات وهويات متعددة :
يرى فريق من الخبراء أن خطورة التنوع التعليمي بين ثقافات وهويات مختلفة، تكمن في أن كل منهج يرتبط بالدولة صاحبة المدرسة (أميركية، بريطانية..)، من شأنه أن يجعل أبناء البلد الواحد عبارة عن طوائف فكرية وثقافية، لأن كل فئة من الطلاب تصطبغ بصبغة خاصة تتبع المدرسة التي يدرسون فيها ومناهجها وطرق التدريس فيها وطبيعة الرسالة التعليمية ذاتها.
ويقول المؤيدون لهذا الرأي إن التنوع الثقافي والتعليمي الأجنبي من شأنه أن يجعل بعض الطلاب أعداء لبعضهم البعض في المجتمع، وبعد فترة يمكن أن يذوب أو يتراجع هذا العداء تدريجيا نتيجة الانخراط المستمر وتقبل الآخر.
وتقول بثينة عبدالرؤوف -أستاذة أصول التربية بمعهد الدراسات التربوية في جامعة القاهرة، وصاحبة دراسة بحثية حول “مخاطر التعليم الأجنبي في مصر”- إن دخول الأطفال إلى المدارس الأجنبية في سن مبكرة يؤدي إلى صراع داخل الفرد لتشكيل الهوية، وتكمن المشكلة في ضعف الرقابة على المناهج، إذ تُنْقَل القيم الغربية حرفيا بما يؤدي إلى ضعف الولاء والانتماء إلى المجتمع الأم.
وتضيف لـ”العرب” أنها اطلعت بنفسها على بعض مناهج المدارس الأجنبية، فوجدت -على سبيل المثال– في المناهج الأميركية دروسا تتعلق بالتحرر الكامل من القيم والعادات والتقاليد والهوية والثقافة، وأخرى تتحدث عن قضايا الشواذ جنسيا وضرورة الحرية الجنسية، ولأن قيم المجتمع الأميركي تختلف عن المنظومة الثقافية للمجتمع المصري فإن ذلك يؤدي إلى صراع داخل الفرد لتشكيل الهوية، وأحيانا يرفض الأطفال وحتى الشباب في هذه المدارس ثقافة أسرهم والمجتمع برمته ويعتنقون ثقافة المجتمع التي تنتمي إليها المدرسة.
وأوضحت أنها قامت بإجراء بحث على طلاب مدارس أجنبية للتأكد من تطبيق قرار وزارة التعليم بإلزام هذه المدارس بتدريس مواد الدين واللغة العربية والتربية القومية والتاريخ، لتحديد مدى تأثر الطلاب بهذه المواد، فكانت المفاجأة أن أكثرية الطلاب لا يحضرون الحصص التي يتم فيها تدريس تلك المواد، وليس لديهم وعي بتاريخ مصر وحضارتها، وحتى المدارس لا تتشدد في إرغامهم على دراسة تلك المواد أو التعمق فيها.
ويلزم القانون المصري المنظم لعمل المدارس الدولية هذه المدارس بتدريس اللغة العربية والتربية الدينية وتاريخ وجغرافيا مصر ومواد الهوية القومية وفقا لمناهج الوزارة، وأن تلتزم المدارس الخاصة بضرورة أداء تحية العلم كمظهر من مظاهر سيادة الدولة وأداء النشيد الوطني أثناء انتظام الطابور وتحقيق الانتماء والولاء للوطن.
بالرغم من النظرة السلبية لدى البعض، فإن “العرب” رصدت عن قرب زيادة الطلب المجتمعي على إلحاق العديد من الأسر أبناءها بمدارس خاصة وأجنبية في مصر، وتشهد الفترة الممتدة بين ديسمبر ويناير من كل عام “تكالب” الآلاف من الأسر على هذه المدارس لحجز مكان مبكرا في الموسم الدراسي الجديد الذي ينطلق في سبتمبر سنويا.
ومؤخرا أصبح المستوى الاجتماعي عنصرا من عناصر الاختيار، وتقوم بعض المدارس بإجراء مقابلات اختبار لأولياء الأمور للتأكد من مستواهم الثقافي والاجتماعي قبل انضمام أبنائهم، للحيلولة دون دخول أبناء أسر مستواها التعليمي والفكري متدنّ، وهو ما يرسخ فكرة الانتقائية بهذه المدارس.
وتشير إحصاءات (غير رسمية) إلى أن الطبقات الغنية وفوق المتوسطة من الشعب المصري بدأت في السنوات الخمس الماضية تنقل أبناءها إلى المدارس الدولية، وهي الأغلى سعرا في مصر، بعد أن بدأت مدارس اللغات تحذو حذو المدارس الحكومية بتقديم مستويات متدنية من التعليم للطلاب فضلا عن ارتفاع الكثافة الطلابية.
وحدد متابعون لتلك الإشكالية جملة من الأسباب التي أفرزت أجيالا جديدة في المجتمع، أهمها أن قواعد التعليم في المدارس الدولية تتمسك بأن تكون مواد اللغة العربية والتاريخ والتربية الدينية والوطنية “استثنائية” وليست أساسية.
وأقر مسؤول في وزارة التربية والتعليم بمصر في تصريحات لـ”العرب” بأن الرقابة على المدارس الدولية والخاصة من حيث طبيعة المناهج ومحتواها وطريقة التدريس ضعيفة، نظرا لقوة نفوذ أصحاب هذه المدارس وعلاقاتهم مع الدولة التي تمنح تصريحا للشهادة، لكن مسألة عدم تدريس مواد تتعلق بالهوية أو بما شابه ذلك في المدارس الخاصة تعد من الخطوط الحمراء وقد تُغلق بسببها مدارس لأنها أحد شروط تأسيس المدرسة، حسب قول المسؤول التربوي.
وأضاف هذا المسؤول “نواجه صعوبات بالغة في الإشراف ورقابة المناهج وأساليب التدريس، وللأسف تتعامل بعض الدول مع المدارس الدولية التي تحمل اسمها على أنها
سفارة في شكل مبنى تعليمي، وتتطلب رقابتها والتفتيش عليها وحتى الأفكار التي يتم زرعها في عقول الطلاب، تدخلا رسميا على مستوى عالٍ، تجنبا لحدوث أزمة سياسية مع
حكومة الدولة التي تحمل المدرسة اسمها”.
يتفق العديد من أولياء الأمور على أن المدارس الخاصة والدولية بالتحديد شكلت ظاهرة جديدة في طريقة التعليم، بعد أن فرخت أجيالا تتمتع بقوة وطلاقة في اللغات الأجنبية وعلوم الكومبيوتر والمواد العلمية.
ويرى البعض أنها الوسيلة المثلى لضمان مستقبل جيد لأبنائه، يستطيعون من خلالها إيجاد وظيفة بمرتب مرتفع سواء داخل مصر أو خارجها.
ويؤمن محمد سمير -وهو طالب تخرج العام الماضي من إحدى المدارس الدولية في القاهرة- بأن بعض الأسر تتعامل مع إلحاق أبنائها بمدارس أجنبية على أنه نوع من الوجاهة الاجتماعية.
وأضاف، ، أن التضييق المجتمعي والديني على الشباب في كل شيء يجعل البعض من متلقي التعليم الأجنبي يقررون أنماط حيواتهم وفق ثقافة البلد صاحبة هذا التعليم، لأنهم يشعرون بمتعة التحرر وينظرون إلى بلدهم ومجتمعهم على أنهما رجعيّان.
مشكلة بعض المؤسسات التعليمية المحافظة كالأزهر أنها تنظر إلى هذه الطبقة الملتحقة بمدارس أجنبية على أنها سبب انهيار العادات والتقاليد والهوية والانتماء، وإعلاء ثقافة الانفتاح والتحرر الأعمى، بغض النظر عن مدى الحاجة إلى نوعية جديدة من التعليم قائمة على التحضر ومواكبة العصر.
وأوضح كمال مغيث الباحث التربوي في مصر، لـ “العرب”، “أنه من الظلم تحميل التعليم الأجنبي مسؤولية غياب الوعي الثقافي والوطني والانتماء، لأن العولمة والثقافة الغربية أصبحتا موجودتين في كل منزل عربي تقريبا من خلال التكنولوجيا، وبالتالي فإن الحفاظ على الهويّة والدين والثقافة والعادات والتقاليد، إحدى أهم مسؤوليات الأسرة، والدولة هي التي تراقب ذلك”.
وقال إن الأزمة الحقيقية تكمن في نظرة طالب المدرسة الحكومية لزميله في المدرسة الخاصة، والعكس صحيح أيضا، ويعامل الطلبة بعضهم البعض على أساس مادي بحت، فهذا يعتقد أنه الأنقى والأكثر احتراما، والآخر يشعر بأنه ممثل الطبقة الأرستقراطية التي من حقها التحكم في زمام الأمور لأن أسرته تمتلك من المال ما يكفي لتحقيق كل طموحاته.
ويضيف كمال أن المجتمع هو من يزرع الطبقية في أعين الشباب.
سباق على الهوية
يرى البعض من خبراء علم الاجتماع أن المدارس الخاصة والأجنبية، في مصر أو باقي الدول العربية، تعتمد على تكريس الثقافة والعادات والتقاليد الغربية في عقول الطلاب، وتزرع فيهم نهج الدولة العلمانية، والتأكيد على فصل الدين عن كل شيء، حتى الحياة اليومية وتعاملاتهم مع باقي أفراد المجتمع الذي يعيشون فيه، ما يجعل البعض منهم ينكفئون على الفئة التي تتناسب مع عقلياتهم وطبيعة حياتهم، وقد تنتج عن ذلك عزلة نفسية واجتماعية.
يتعاظم خطر التعليم الأجنبي عندما لا تخضع أطر التدريس والمناهج لرقابة حكومية، ونتائج ذلك لا تظهر بشكل مفاجئ، ففي المستقبل القريب يتحول المجتمع الواحد إلى فئات بثقافات وعادات وتقاليد وهويات مختلفة، ما ينتج عنه أحيانا تآكل فكري، وأحيانا تمييز واضح بين من درسوا تعليما بثقافة متحررة ومن عاشوا داخل جدران مدارس حكومية تقدس التقاليد أكثر من العلم.
أشارت سهير لطفي -أستاذة علم الاجتماع بجامعة حلوان (جنوب القاهرة)- إلى أن التعليم الأجنبي ينفذ إلى المجتمع عندما يكون المجتمع نفسه مليئا بالثغرات في نسيجه الداخلي، وهذا موجود فعليا في مصر، فالحكومة نفسها لا تفرض الهوية والثقافة في تعليمها، ولا تزرع في عقول وشخصيات الطلاب التاريخ الحقيقي ولا الدين الصحيح أو حتى تقديس الوطن، وهو ما يسهل مهمة بعض المدارس الأجنبية في عملية تسميم العقول وتغذيتها بأفكار وثقافات هدامة.
وأضافت لـ”العرب” أن التركيبة المجتمعية لطلاب المدارس الأجنبية في مصر أو أيّ بلد عربي تنقسم إلى نوعين، النوع الأول يمثله الطالب الذي له أسرة ملتزمة تدرجت حياتها ومرت بظروف كل الطبقات، الفقيرة والمتوسطة والميسورة، وهذه تريد لابنها تعليما بمستوى راقٍ وعصري.
ذلك النوع من الطلاب يفخر دائما بهويته وثقافته وانتمائه ويكون متعايشا بسلام مع نفسه ومع الآخرين، ويصعب أن يسبح مع تيار المدرسة الأجنبية التي تسعى إلى تغيير كل ما سبق داخل شخصيته، فهو يحترم الثقافة الأجنبية لكنه لا يطبقها.
النوع الثاني من الطلاب، تنبني تركيبته الاجتماعية على أسرة عاشت حياة ميسورة بشكل مفاجئ، أي أنها لم تكن لديها ثقافة طبقة بعينها، وهؤلاء الطلاب وأسرهم لا يكون لديهم هدف أو رؤية واضحة عن سبب الالتحاق بالمدرسة الأجنبية، فالمهم أن يكون بهذه المدرسة أبناء الطبقة الميسورة ماديا وليس الفقراء.
هنا يبرز دور الأسرة قبل المجتمع، فأبناء النوعية الأولى يلتحقون بالمدارس الأجنبية ويحصلون منها على شهاداتهم لكن يظلون كما هم دون تغيير في الثقافة أو الهوية، أما أصحاب النوعية الثانية فلا يحتكون سوى بأمثالهم من الأغنياء، وتكون حياتهم قائمة على شراء إعجاب الناس بمستواهم التعليمي، حتى أنهم يكونون صداقاتهم بشكل انتقائي، وبعضهم يبني صداقة مع أبناء طبقة أقل حتى يمارس الاستعلاء عليهم، باعتبار أنه أغنى منهم ويعيش حياة كلها رفاهية ومتحررة بثقافة غربية ولغة أجنبية ليشعرهم بأنه في مجتمع متخلف.
وعرفت مصر المدارس الأجنبية منذ قرن تقريبا، لكن هذا الملف أصبح مفتوحا على مصراعيه للنقاش في وقت تزامن مع صعود التيار الإسلامي، أي منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي حتى الآن، والأشد غرابة أن الازدهار في المدارس الأجنبية عموما، صاحبه ازدهار مماثل في المدارس والمعاهد الإسلامية، وهنا تكمن المعضلة في المجتمع المصري، وكأن الصراع السياسي انتقل إلى صراع على الهوية.
وقد تعمدت الحكومات المصرية المتعاقبة ترك الحرية لفتح المدارس الأجنبية التي تنامت في السنوات الأخيرة، على أمل أن تنتشر الثقافة المدنية وتقضي بصورة غير مباشرة على محاولات البعض العمل على أسلمة المجتمع من خلال التعليم، وبالفعل نجحت نسبيا في تقليص عدد المدارس التي يرعاها وأنشأها إخوان وسلفيون، ووضعت البعض الآخر تحت إشرافها، وفتحت الباب على مصراعيه للمدارس الأجنبية لأسباب ثقافية، لكن المسألة بدأت تنحرف عن أهدافها المجتمعية وتتحول إلى استثمار أو تجارة تدر على أصحابها ربحا كثيرا.
كما التطور الحضاري الذي تعول عليه مصر عبر التوسع في المدارس الأجنبية، جعلها تؤسس أكاديميات ومدارس ترعى التلاميذ النابغين منذ الصغر، مثل مدارس النيل وزويل وبعض المدارس التابعة للقوات المسلحة، في محاولة لتربية جيل جديد من الموهوبين لم تتيسر لهم القدرة المالية للالتحاق بالمدارس الخاصة أو الدولية.
ويعتقد البعض أن ثمة مشكلة كبيرة يمكن أن تواجهها مصر في المستقبل، تتمثل في زيادة حدة الاستقطاب في المجتمع، لكن خبراء في علم الاجتماع يرون أن ميزة مصر تكمن في التعددية، وفي قدرتها على استيعاب الثقافات، وبالتالي فالتنوع سوف يتحول إلى ميزة إيجابية، ليس فقط لابراز المواهب، وإنما أيضا لتعميق البعد الحضاري لمصر الذي ميزها عن غيرها، عندما انصهرت فيها مكونات مختلفة عبر الزمن ولم يشكُ أحد من ضياع الهوية.