ما يجب التفكير فيه الآن؟

الأربعاء 20 ديسمبر 2017 12:17 ص

تعج المنطقة العربية، والإقليم الأوسع للشرق الأوسط الذي يحيط بها، بالكثير من التطورات الهيكلية التي تغير من طبيعة المجتمعات والدول، وكلها بات ضرورياً التفكير في كيفية التعامل معها من ناحية، ورسم خريطة طريق للمستقبل من ناحية أخرى.

فإذا كان يمكن القياس التاريخي للتوضيح، فإن منطقتنا تعيش في عام 1944 أي قبل عام من نهاية الحرب العالمية الثانية التي رغم أنها كانت لا تزال مستمرة، وحتى حامية الوطيس أحياناً، فإن العالم قد تبيّن له من سوف ينتصر في الحرب، وأن القوتين الصاعدتين في العلاقات الدولية سوف تكونان الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وما أفرزته الحرب من تطورات تكنولوجية باهرة سوف تؤثر في تاريخ الدنيا؛ كل ذلك بدأ عملية التحضير لمرحلة ما بعد الحرب، وما سوف يكون عليه شكل العالم، وما هي قواعد اللعبة الجديدة في الدنيا. بمثل هذا الإدراك فإن منطقتنا لا تزال تباشر الحرب ضد الإرهاب، ومواجهة التوسع الإيراني في اليمن، وأشكال العنف المختلفة في سوريا وسيناء وليبيا؛ ورغم ذلك فإن المستوى العام للعنف والمواجهة انخفض كثيراً عما كان عليه قبل سنوات عند تأسيس دولة داعش المزعومة. كما أن ميزان الصراع في اليمن قد انقلب بشكل حاسم خلال الفترة القصيرة الماضية لصالح الحكومة الشرعية، وما صاحبه من ظهور أدلة حاسمة على التدخل الإيراني في الشأن اليمني. وكذلك فإن سلسلة مؤتمرات سوتشي وآستانة وجنيف تضع الأزمة السورية المزمنة على طاولة التفاوض وتنفيذ قرارات دولية. مرة أخرى فإن كل ذلك وغيره من الأمور المشابهة لا ينفي أن البراكين والعواصف التي تولدت عما سمي «الربيع العربي» ما زالت نتائجها وآثارها باقية، وجروحها لم تندمل بعد.
هذه المعادلة الدقيقة ما بين الحالة التعيسة القائمة، وظهور الضوء في نهاية النفق مؤذناً بأن الليل دائما له آخر، تستلزم التحضير لما سوف يأتي، خاصة أن بعض التطورات الجارية لا تسير في مسار البؤس، وإنما تولد الأمل بما تتيحه من طاقات كبيرة. ولعل أهم ما نلحظه في هذا الاتجاه تلك الثورة الإصلاحية الكبرى في المملكة العربية السعودية، والتي فاجأت المنطقة العربية بقدر ما فاجأت العالم. ولعل هذا الاتجاه الإصلاحي لا يجري في المملكة وحدها، وإنما نجد الكثير من علاماته في مصر والأردن والمغرب وتونس ودولة الإمارات العربية، وفي جميعها يوجد التركيز على محاربة الإرهاب، والتنمية بجوانبها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أيضاً، والتأكيد على المواطنة، والسعي نحو السلام وحل القضية الفلسطينية وتجديد الخطاب الديني. الإصلاح هو عنوان المرحلة المقبلة من زمان الدولة العربية، والسعي الجدي نحو اللحاق بالدول المتقدمة تصنيعاً وتكنولوجيا وسعادة في العيش، ومساواة في الحقوق والواجبات. ولكن الإصلاح لا يؤتي نتائجه بينما الإقليم يئن بقوة ليس فقط من وجود العنف، وإنما أيضاً ما تركه العنف من نتائج على الأرض تحطمت فيها دول ومدن وشعوب.
وإذا كان عام 1944 قد شهد مولد الأفكار التي سرعان ما تبلورت فيما بعد في ميثاق الأمم المتحدة، ومولد المنظمة الدولية، وكذلك مولد الأفكار الخاصة بالتجمع الأوروبي، وأسس نهاية الفترة الاستعمارية في تاريخ العالم، وهو ما تمت ترجمته واقعياً بعد نهاية الحرب، حتى جاء التفكير الخاص بالحركة الصهيونية الدولية بالتحول من السعي من أجل إنشاء «وطن قومي» لليهود إلى دولة يهودية صهيونية. ما يجب التفكير فيه الآن من قبل الدول الرشيدة في المنطقة، والتي بدأت عمليات إصلاح مساراتها التاريخية من الداخل، أن تبدأ في التحضير من الآن لمرحلة ما بعد الحالة التي نعايشها الآن. والحديث هنا على سبيل البداية يشمل السعودية ومصر والإمارات والأردن لكي تقوم بما قامت به الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا قبل نهاية الحرب العالمية الثانية فيما يخص العالم، وما قامت به فرنسا وألمانيا بعد سكوت المدافع فيما يخص أوروبا.
لقد سبق في هذا المقام أن طرحت فكرة ضرورة قيام نظام للأمن الإقليمي يقوم على احترام دول المنطقة وتكاملها الإقليمي وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والاعتراف بحقوق الأقليات دون المساس بوحدة الدولة، واللامركزية بأشكالها وتنويعاتها المختلفة، وأخيراً أن تكون الدولة وحدها هي التي تحتكر الحق الشرعي في استخدام السلاح. هذا النظام للأمن الإقليمي على أهميته لا يكفي للتعامل مع قضايا المستقبل المختلفة، ومرة أخرى فإن الدول التي تعاملت مع مستقبل العالم بعد الحرب العالمية الثانية بدأت التفكير مبكراً في عملية إعمار أوروبا المدمرة بعد الحرب، ومن هذا التفكير ولد مشروع مارشال الأميركي، والأهم من ذلك مشروع إنشاء البنك الدولي وحتى صندوق النقد الدولي. وفي منطقتنا فإن العراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال سوف تحتاج مساعدات كبيرة سواء من الدول العربية أو المجتمع الدولي بدوله ومؤسساته لإعادة الإعمار والتعمير. ولحسن الحظ فإن الثورة التكنولوجية العالمية، فضلاً عن السوق الدولية العامرة بالأموال، يمكنها أن تسهم بقوة في إعادة بناء الدول المدمرة، وإعمارها خلال فترة أقصر بكثير مما حدث في أوروبا واليابان. إن هذا التفكير الجديد يجعل التعمير جزءاً لا يتجزأ من التسويات المقبلة التي تثبّت السلام وتعطي للشعوب آمالاً في المستقبل بدلاً من اليأس الذي يولد العنف والتطرف، وربما يجعل الدول التي خرجت تواً من أتون الحرب أقل تعاوناً مع التنظيمات الإرهابية التي سوف تحاول دوماً أن تعيد نفسها إلى الساحة.
التفكير في كل هذه القضايا من الأمن الإقليمي إلى الأمن السياسي إلى الأمن الاقتصادي سوف يحتاج لمرحلة تحضيرية تقوم بها مراكز البحوث، وأجهزة التفكير والتخطيط التي تدرس ما هو ممكن إقليمياً، وحتى التعلم من التجربة العالمية ليست فقط ما تعلق منها بالحرب العالمية الثانية، وإنما ما تعلق منها بالحرب الكورية والحرب الفيتنامية والحروب في منطقة الهند الصينية أو جنوب شرقي آسيا في العموم التي عرفت أنواعاً من الحروب التقليدية وحروب العصابات والحرب ضد الإرهاب.

وفي كلتا الحالتين، في أوروبا وآسيا، فإن ظروف الحرب والخسائر المادية والبشرية المروعة مهدت الطريق إلى تجارب تنموية وتعاونية واعدة ومبشرة، وهي الآن تمثل أعمدة الاقتصاد العالمي. والثابت أنه وكما حدث في الحالتين الأوروبية والآسيوية فإنه لا توجد دولة تستطيع أن تعيش بمعزل عما يجري في منطقتها حتى ولو كان لديها النظام السياسي المناسب، والحكمة السياسية بلا حدود.

وربما لم تكن هناك صدفة أن مشروع مدينة «نيوم» لم يقتصر على المملكة العربية السعودية، وإنما امتد من حيث التصور إلى الحدود الأردنية في الشمال، وإلى الجانب الآخر من خليج العقبة في مصر. والأمر على أي حال يحتاج إلى المزيد من الاجتهاد، ولكن الرسالة الأولية هي أن التفكير فضيلة الذين يتعلمون من ماضيهم، ولديهم حكمة الاستعداد للمستقبل.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر