فريد أبو سعدة: الأوطان تسقط ولكن لا تموت

الثلاثاء 28 نوفمبر 2017 12:57 م
فريد أبو سعدة: الأوطان تسقط ولكن لا تموت

جنوب العرب : إيهاب محمود الحضري

جنوب العرب -

لم يكن مألوفًا أن يتواجد الشاعر المصري فريد أبو سعدة (1946)، بقاعة المجلس الأعلى للثقافة لتوقيع ديوانه الجديد "أطير عاليًا"، فهو يقيم منذ سنوات بمدينة المحلة الكبرى لظروف مرضه، ولذلك كان الاحتفاء به وبديوانه كبيرًا، غير أن الاحتفاء لم يكن يوازي البهجة الكبيرة التي يوزعها أبو سعدة على من حوله، هذه البهجة التي انسحبت تمامًا من الديوان الذي حضر فيه الموت بقوة وسيطر عليه إنسان تائه، لا وطن له، إنسان مشوش يبدو في حالة بحث عن هوية ويتلمس قناعة ما يتدثر بها في عالم بات مشكوكًا في وجوده بالأساس.

قرأت الديوان، وانشغلت بأسئلة كثيرة، شغلتني الملائكة التائهة في المدينة، وفكرت في الوطن الذي لا يملك فيه أبو سعدة غير همه وما غطاه ظله من تراب، وعشت طويلًا مع الغريب الذي أخاف الحراس بوردة حمراء، ومع الوطن الذي ذُبنا فيه فلفظنا، وهذا الناقد ذلق اللسان المتملق، أردت أن أسأله عن الشللية التي تحكم المشهد الثقافي الآن، وعن حاضر قصيدة النثر وما وصلت إليه بعد عناء. هنا يجيب فريد أبو سعدة في حوار لضفة ثالثة عن هذه الأسئلة وأمور أخرى كثيرة.

* الجزء الثاني من الديوان يضم قصائد مكتوبة منذ السبعينيات بعضها منشور أو مذاع وبعضها لا.. لماذا وضعتها في الديوان؟

ربما أردت أن يطّلع أكثر من جيل فاتته هذه القصائد ولم يرها، لقد مرَّ على أكثرها حوالى 40 سنة، كما أردت أن تعرف هذه الأجيال، ويعرف المتابعون لتجربتي، من النقاد خاصة، المراحل أو المسافات التي قطعتها في غابة الشعر، وهناك سبب ثالث هو أن هذه القصائد لم أستطع نشرها في حينها، أو تضمينها في دواوين، ولا حتى في أعمالي الكاملة التي ضمت 13 ديوانًا لأنها في معظمها تتعرض للتابو السياسي، ولأننا نعيش في هامش عريض من حرية التعبير أصبح معه من الممكن عرضها على القراء من محبي الشعر، والدارسين له من النقاد.

 

* "قابلت ملائكة تائهين/ كانوا صغارًا/ وكانوا خائفين من الإعلانات/ في سقف المدينة/ الإعلانات التي تضاء وتطفأ/ ولا يعرفون لماذا".. ربما تقودنا هذه الجمل الشعرية لسؤال خاص بابتعادك عن القاهرة واستقرارك بمدينة المحلة.. لماذا رغم تكدس الحياة الثقافية بالعاصمة؟

لقد كنا ونحن صغارًا في المحلة، ونحن طلاب في الثانوية، قبل أن نبلغ العشرين، نتحايل بطرق كثيرة للذهاب إلى القاهرة، لرؤية نجيب محفوظ ونجيب سرور ويوسف إدريس و.. و.. في الأتيليه أو ريش أو إيزافتش أو دار الأدباء، وبعد الثانوية التحقت بكلية الفنون التطبيقية، ما جعلني أوغل في هذا الوسط الثقافي والفني لمدة خمسة أعوام، وبعد تخرجي وجدت لي الأسرة وظيفة في شركة النصر بالمحلة، وخلال شهرين أو ثلاثة تمت ترقيتي إلى رئيس قسم، ولا أقول هذا لأنني كفء بل لأن رئيسة القسم أرادت بوجودي أن تترقى إلى رئيسة أقسام، كنت إذن رئيس قسم ولم يتجاوز عمرى الرابعة والعشرين. تخيل معي المستقبل، إذ يمكن أن أصير رئيس مجلس الإدارة وأنا في الخامسة والأربعين مثلا، ولك أن تتخيل فرحة الأسرة بما أنجزته وما سيكون عليه مستقبلي المهني، لكنني لم أكن سعيدًا، كنت كمن فطم قسرًا عن عالمه، ولذا ما إن وجدت إعلانًا عن وظيفة في هيئة المطابع الأميرية حتى تقدمت سرًا وسافرت سرًا ونجحت.

واستلمت العمل بادئًا مجرد إخصائي طباعة في القاهرة، ومتنازلًا عن درجة رئيس قسم في المحلة. يمكنك أن تحسب المدة من الدراسة في الكلية والعمل في المطابع الأميرية ثم في دار المعارف بشكل متواصل حتى تقاعدي تجدها حوالي أربعين عامًا، أنا لم أترك الحياة الثقافية يا عزيزي، أنا أخذت القاهرة معي إلى المحلة بعد تقاعدي ثم مرضي، وأتردد عليها طول الوقت لأنني عضو بعض اللجان في هيئات ثقافية مختلفة فيها.

* تسيطر على الديوان حالة من الفناء في العدم، التلاشي، التيه، هنا إنسان مشوش غير متأكد من وجوده تصبغ حالته روح القصائد على نحو واضح وهناك ثمة اعتراف في أحد المقاطع: "أنا مشوش يا حبيبتي/ مشوش تمامًا".. ربما هي بحث عن هوية، عن شيء ضائع، عن أمل مفقود، أو عن حياة أخرى جديرة بأن تعاش..

أنت أجبت تقريبًا، نعم أنا باحث عن حياة جديرة بأن تعاش، حياة تكافئ الحلم المزمن بالحرية والعدل، أيقظتنا الهزيمة ونحن تلاميذ، أيقظنا خطاب الزعيم وهو يقدم استقالته من حلم غمرنا فيه، ورأينا أهالي المحلة يهرولون كالثكالى يصرخون ويبكون ويملأون القطارات، وأسطح القطارات الذاهبة إلى القاهرة ـ ومنها كما قرروا ـ إلى بيت الزعيم ليثنوه عن قراره بالتنحي، لم أسافر ولكنني وجدت نفسي محمولًا على الأعناق بين الحشود، أهتف ويهتفون ورائي، وبعدما التحقت بالجامعة بشهرين كنت أطفو على سطح الحشود ـ في مظاهرات يناير الغاضبة، نعم كانت الهوية لا تزال تتشكل، فبعد عبادة الحلم وصاحب الحلم  صار من الممكن أيضًا نقده دون التقليل من تقديره القار في الوعي الجمعي. 

* الموت أيضًا حاضر بقوة، ولكن بصورة تبرزه كحدث عادي غير مخيف، حدث يتعامل معه إنسان هذا الديوان بتلقائية شديدة وببساطة أيضًا.. هل الموت هو نهاية الحياة؟ أم أنه إحدى مراحلها؟

الإنسان لا يفنى، كيف يفنى وروحه نفخة من روح الباقي، الموت عتبة لغرفة أخرى في منزل الخلود، إنه يعود ربما في هيئة أخرى، وفي حيوات أخرى، كما يتصور الهنود.

"أمس/ عندما عدت من الماضي/ رأيت السماء واطئة/ والبيوت قصيرة ومقشرة/ والشوارع ضيقة كمعكرونة سوداء مبعثرة/ والأشجار مبقعة بمخلفات البجع/ رأيت الناس حزانى وواجمين/ هل الحاضر حلم سيئ إلى هذا الحد؟! أعدني يا إلهي/ كيرياليسون".. هل هناك انفصال في الزمن؟ هل تؤمن بماضٍ وحاضر ومستقبل؟ الزمن كما أراه دائرة، يفضي بعضها لبعض.

 

* "الوقوع في الحب/ كالقفز من الطائرة/ صدقني/ ستنعم بما لم تره من قبل/ مطمئنًا إلى مظلتك/ التي لن تنفتح/ عندما تكتفي".. تشبّه الوقوع في الحب بالقفز من الطائرة وهي صورة بديعة لها دلالتها.. وأنا أسألك: هل تذكر أول حب حقيقي في حياتك؟ وماذا كانت قصته؟ وما أهمية الحب للإنسان؟

أما عن أول حب وقصته فلا تعليق، وأما عن أهمية الحب فدعني أقل إنه الرغبة في التحقق، وهو تشوُّف الإنسان الدائم للونس بآخر في رحلته في الجحيم، وهو الآخر في قصائدي.

* تقول في قصيدة البكاء: "وطني ولا أملك فيه/ غير همي/ وطني ولا أملك فيه/ غير ما غطاه ظلي من تراب/ أشهدتكم أني بريء/ وأن ما يجول تحت هذه الصحراء/ دم/ دم وليس ماء".. وتقول أيضًا في هذا الديوان: "لي بيت جميل/ أحبه جدًا/ لكنني لم أقصده أبدًا/ لم أتجول فيه أبدًا/ وعندما يطفو على ذاكرتي/ كوردة ملونة من الفلين/ أشعر بالسرور والرضا/ فقط، لأني أملكه".. حدثني عن الأشياء التي نملكها ولا نستمتع بها، الأشياء التي بحوزتنا ولا نقدر على الاقتراب منها، حدثني عن وطنٍ بات غريبًا عنا وصرنا نزلاء عليه ليس أكثر...

كما ذكرت: وطني ولا أملك فيه/ غير ما غطاه ظلي من تراب. مع حلم مزمن بالحرية والعدل.

* ربما يكون من المناسب أيضًا أن أذكرك ببوست لي على الفيس قلت فيه "كانت القاهرة حنونة وراعية ومحتفية بنا كأم، لكنها الآن تطاردنا وتكشر في وجوهنا كامرأة أب، بينما تحتضن أولادها من رجل آخر، وتطعمهم في حنان من فم لفم"، هنا تحضر القاهرة لتكون دالة على الوطن.

حذرت، منذ سنوات بعيدة، في قصيدة "البكاء" من سقوط الوطن: "أحذركم من سقوط الوطن/ أحذركم من سقوط الوطن/ أحذركم سطوة الفاتحين".. الآن: هل سقط الوطن؟

الأوطان لا تموت، ربما تسقط وتنهض، تقوى وتضعف، إنها تذكرني بأحد الكائنات التي كان على هرقل الأسطوري أن يواجهها، كائن متوحش كلما تغلب عليه هرقل وقتله وألقاه أرضًا، لا يلبث حتى يعود حيًا وضاريًا ويهاجم هرقل ومن جديد، يقتله هرقل مرة أخرى ويرميه أرضًا فيعود حيًا من جديد، وهكذا حتى أدرك أنه ما إن يمس الأرض حتى يحيا، فقتله وأبقاه معلقًا بعيدًا عن الأرض. 

* "التقط الغريب وردة حمراء/ ووقف ينتظر صديقته/ البائع الباكي/ ما إن رأى الوردة حتى راح يتراجع مرعوبًا/ زاحفًا على مؤخرته ويديه/ الحراس أيضًا/ ما إن رأوا الوردة/ تتحرك في الفراغ!! حتى تراجعوا وهم يحمون وجوههم/ وكان الغريب يقهقه ساخرًا/ لأنه بوردة ليس إلا/ استطاع أن يخيف الحراس".. نحن الغرباء هل سننجح يومًا في إبعاد الحرس عن التحكم في بلادنا وفي مصائرنا؟ هل سينتهي يومًا الحكم العسكري لدولنا العربية؟

لست مع شعار "يسقط حكم العسكر". ليس في مصر حكم عسكر كما كان أيام المماليك مثلًا أو في جمهوريات الموز في أميركا اللاتينية، الجيش المصري منذ أسسه محمد علي مدرسة الوطنية المصرية، وبوتقة المواطنة، المسلم والمسيحي، الفقير والغني، الصعيدي والبحراوي، ماذا عن أيزنهاور وديغول وأتاتورك و..و..و.. هل كان حكمهم حكم عسكر؟

* بعد سبع سنوات على ثورة يناير 2011.. هل ترى أننا تراجعنا لما قبل عصر مبارك؟ أم أن ما حدث كان إيجابيًا؟ وبشكل عام كيف تقيم تجربة يناير بعد مرور سبع سنوات؟

لم أعتقد أبدًا في ثورة يناير، كنت أراها هبة غاضبة من فئات مختلفة، غاضبة من أشياء مختلفة، لا برنامج لها ولا زعامة، غضبة هائلة ولا عقل لها، وما طرحته من شعارات كانت عمومية جدًا، ورومانسية جدًا، كانت الملايين تصرخ بأوجاعها فقط فركب أمواجها الإخوان لأنهم أكثر تنظيمًا ولديهم برنامجهم.

* تتحدث في الديوان عن رغبتك بقتل ناقد متكسب ذلق اللسان ثم تتراجع لأنك تكتشف أنه يأكل نفسه الآن ويقتله التجاهل.. كيف تتابع الحركة النقدية منذ بداية الألفية الجديدة؟

بل من قبل الألفية بعقد من الزمان والحركة النقدية تتحلل، النقاد الذين كانوا سلطة ثقافية جادة ومرعية الجانب ـ نتيجة لنزاهتهم ـ  كانوا قد رحلوا، ومن تبقى أصابتهم عدوى النجومية، يبحثون عن الشهرة بالمقايضة، لأن الشهرة هي الطريق إلى ملء الدوريات العربية بالهراء، فتملأ الدوريات جيوبهم بالدولارات، ولأنها السبيل إلى التحكيم في الجوائز العربية السخية. 

* وتقول أيضًا: "إنه الثلاثاء/ ليلة الرعب في أفلام MBC/ ولقاء المافيات الصغيرة في بولاق، والأتيليه، وزهرة البستان".. أنت هنا تشير إلى أماكن تجمع المثقفين حيث أتيليه القاهرة ومقهى زهرة البستان وتصفهم بالمافيات التي لم تزل صغيرة.. هل ترى أن الشللية تحكم المشهد الثقافي في مصر؟

نعم تحكمه طبعًا، بل وتتوحش، وتتوغل في مراكز اتخاذ القرار في مؤسسات الدولة، ولكن مافيات القصيدة غير هذه الشللية التي تتحكم في المشهد الثقافي. هي مافيات أخرى لها قوانينها الخاصة وانحيازاتها المفهومة رغم ما قد يبدو لغير المتابع الدقيق لها من غموض ساذج.

* بعد كل هذه السنوات.. أين وصلت قصيدة النثر المصرية والعربية أيضًا؟

قصيدة النثر كانت توأم قصيدة التفعيلة؛ ظهرا معًا في وقت واحد تقريبًا، لكن قصيدة التفعيلة انتصرت قبل أختها، رغم العنت والتعسف ضدها، لأنها باحتفاظها بالتفعيلة سبقت إلى الاعتراف بها لكونها تحتفظ بجينات الأب المورث، بينما حوربت قصيدة النثر باعتبارها قصيدة لقيطة، الآن يمكن القول إن الذائقة تغيرت، وإن إقبالًا هائلًا صار على قصيدة النثر، يكاد يكون أكثر من الإقبال على الأشكال الأخرى للشعر التقليدي والتفعيلي. هو انتصار تأخر.

التعليقات

حوارات

الثلاثاء 28 نوفمبر 2017 12:57 م

قال وزير الطاقة المغربي السابق عزيز رباح، إن بلاده منفتحة على تنويع الشراكات مع جميع دول العالم في إطار "رابح - رابح"، والتأكيد على السيادة وعدم التدخ...

الثلاثاء 28 نوفمبر 2017 12:57 م

قال الدكتور إبراهيم عشماوي، مساعد أول وزير التموين والتجارة الداخلية المصري، إن مصر لديها الإمكانيات والاستعدادات والمناطق الاستراتيجية لاستضافة مركز...

الثلاثاء 28 نوفمبر 2017 12:57 م

مدير المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب: قيادات "داعش" وأخواتها خرجت من سراديب  أكد رئيس المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب والاستخبارات، جاسم محمد، أ...

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر