جمال عبدالناصر في نشوة تأميم القناة
جعل الجدل الدائر حول مشروع لتعديل قانون هيئة قناة السويس النظام المصري في وضع حرج اضطرّه إلى استخدام أسلحته السياسية والإعلامية لتبديد العديد من المخاوف التي أثارها المشروع، والذي تكمن خطورته في أن الجدل وضع سمعة الجيش التي استمدها من تأميم هذه القناة على المحك لأول مرة.
والخميس حاول رئيس هيئة القناة أسامة ربيع امتصاص الغضب الشعبي الناجم عن المشروع الذي قدمته الحكومة إلى البرلمان وما تسبب فيه من تقديرات سلبية من خلال ترحيبه بالاستثمار الأجنبي، مؤكدا على أنه “لن تكون للأجانب سيطرة على القناة ولا على صندوق مقترح لتعزيز إدارة مواردها”.
وفُسرت هذه التصريحات بأنها هدفت إلى طمأنة مواطنين انزعجوا من تمرير البرلمان (مبدئيا) الاثنين تعديلات لتدشين صندوق خاص بهيئة قناة السويس، ما أثار التكهّن بفسح المجال لبيْع الأجانب حصصًا من القناة.
ويرمي مشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة لمجلس النواب إلى تأسيس صندوق تملكه هيئة قناة السويس “يسهم في تحقيق التنمية المستدامة في إيرادات الهيئة واستثماراتها”.
ويُجيز القانون -بعد أن يوافق عليه البرلمان نهائيا، وإثر مصادقة رئيس الدولة- لهيئة القناة القيام بشراء أو بيع أو تأجير واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها لصالح مستقبل الهيئة.
ولم تبدد تصريحات أسامة ربيع -التي استخدم فيها مفردات “مخاتلة” للتفرقة بين السيادة وامتلاك الأجانب للأسهم، والتي أدلى بها أمام عدد من الصحافيين- التخوّف من الإضرار بالبعد التاريخي للقناة التي كان تأميمها عام 1956 من مكتسبات ثورة يوليو 1952، والتي نهضت عليها سلطة الجيش المصري في الحكم، ودفع مئات الآلاف من المواطنين ضريبة باهظة من دمائهم أثناء حفرها.
وأشار رئيس هيئة قناة السويس إلى أن الصندوق يعمل على حماية موارد القناة من أجل إعادة الاستثمار، ومواجهة التحديات والأزمات غير المتوقعة، وسيكون منفصلا عن هيئة القناة التي تعمل بالفعل مع شركات أجنبية لتطوير مشروعات.
وزاد أسامة ربيع الشكوك عندما قال إن الهيئة لا تمتلك أيّ أموال بسبب قيامها بإرسال كل عائداتها إلى موازنة الدولة، ولذلك تم إعداد صندوق لقناة السويس يُموَّل من الفائض، وكأن هذه الأموال يجب أن تكون بعيدة عن موازنة الدولة.
ويسعى النظام المصري لحشد استثمارات من الخارج والقطاع الخاص من أجل المساعدة على معالجة أزمة نقص العملة الصعبة التي تعيق الواردات وتُبطئ أنشطة اقتصادية.
وبالنسبة إلى مصر تمثل قناة السويس (وهي أسرع ممر مائي بين آسيا وأوروبا) مصدرا رئيسيا للنقد الأجنبي، وتجلب عائدات سنوية الآن تقدر بنحو ثمانية مليارات دولار.
وتعد القناة “خطا أحمر” وذات قيمة تاريخية لدى المصريين قبل أهميتها الاقتصادية واللوجستية للدولة، وتحظى التطورات الأخيرة بمتابعة شعبية واسعة.
ونتجت معارضة مشروع القانون عن خشية أن تشترك أطراف محلية أو أجنبية في ملكية هيئة القناة، إلا أن الحكومة تؤكد أنه قانون “لزيادة قدرتها على المساهمة في التنمية الاقتصادية المستدامة”.
وأخفق نواب في البرلمان وإعلاميون ومسؤولون كبار بالحكومة في تبديد المخاوف، خاصة أن رئيس هيئة قناة السويس السابق ومستشار رئيس الجمهورية الفريق مهاب مميش أكد رفضه للمشروع، بما أجهض كل المحاولات التي عملت على تجميله.
كما كتب وزير الدولة للإعلام السابق أسامة هيكل، القريب من المؤسسة العسكرية، على صفحته الخاصة في فيسبوك ما يشير إلى رفضه الصريح لمشروع القانون.
وقالت مصادر مصرية لـ”العرب” إن “حذف تصريحات مميش لصحيفة ‘المصري اليوم’، وحذف هيكل أيضا لتعليقه، يعكسان موقف جناح في المؤسسة العسكرية يرفض مشروع القانون ويخشى عواقبه، ما منح جرأة مضاعفة لمعارضين وجدوا في أزمة القناة وسيلة لتأكيد حضورهم السياسي في الشارع”.
وأضافت المصادر ذاتها أن “الجدل الدائر حول قناة السويس أكد أن النظام المصري فقد جانبا كبيرا من مصداقيته، ما يعيق أي خطوة يمكن أن يقدم عليها بشأن برنامج الخصخصة الذي أصبح جزءا من روشتة صندوق النقد الدولي بعد أن وافق أخيرا على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، ومساعدات أخرى بقيمة 14 مليار دولار”.
وحذرت المصادر من رفض أي خطوة يمكن أن يقدم عليها النظام مهما كانت هامشية أو صغيرة، لأنها ستحاط بشكوك كبيرة، وقد يتم التعامل معها على أنها تفريط في حقوق ومقدرات الشعب المصري.
وأوضح القيادي في الحزب العربي الناصري محمد سيد أحمد أن غياب الثقة بين الحكومة والمواطنين جعل عملية توضيح حقيقة صندوق قناة السويس لا تحظى بالقبول، وأن معظم الناس سئموا من الحديث عن مشروعات قومية في حين أنهم يعانون مشكلات يومية تتعلق بأوضاعهم الاقتصادية الصعبة وليست لديهم قابلية تصديق ما يروج حول صندوق القناة وغير ذلك من التوجهات العامة للدولة.
وذكر في تصريح لـ”العرب” أن “الحكومة تتجاهل حقيقة راسخة وهي أن المواطنين يثقون بما تروجه مواقع التواصل الاجتماعي من أنباء بشأن صندوق القناة وليست لديها الأدوات الفاعلة التي تمكنها من الوصول إليهم عبر خطابات مقنعة، بجانب أن بعض التصريحات لم تكن على قدر كبير من الوضوح لدحض الشائعات”.
ويعبر قناة السويس حوالي 24 في المئة من إجمالي تجارة الحاويات في العالم، وتستوعب نسبة 100 في المئة من تجارة الحاويات المارّة بين آسيا وأوروبا.
وشكلت القناة منذ افتتاحها في يناير عام 1869 بديلا عن الطريق الملاحي القديم بين آسيا وأوروبا، الذي يلتف حول جنوب أفريقيا المعروف بطريق رأس الرجاء الصالح، ما اختصر مسافة سير السفن بآلاف الكيلومترات، ووقتا يتراوح بين 5 و6 أيام.
وفي عام 1905 حاولت الشركة الفرنسية المالكة للقناة آنذاك تمديد حق الامتياز 50 سنة إضافية إلا أن مساعي تلك المحاولة لم تنجح.
وفي يوليو عام 1956 قام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس، وهو القرار الذي تسبب في إعلان كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل الحرب على مصر ضمن العدوان الثلاثي الذي انتهى بانسحاب هذه البلدان تحت ضغوط دولية ومقاومة شعبية، وبعدها تحول قائد الجيش وزعيم الثورة إلى بطل شعبي في مصر والعالم الثالث.