مطالب الهوية وإدارة الشعبويات

الجمعة 06 مايو 2022 4:36 م

كتبتُ مراراً عن ظاهرة الشعبويات الصاعدة منذ عقود في أوروبا لكنها الآن صارت ظاهرةً عالمية. ويوم الثلاثاء في 3-5-2022 كتب الدكتور محمد النغيمش في جريدة «الشرق الأوسط» عن «إدارة الحشود» وهو موضوعٌ مختلفٌ تماماً يتعلق بالقدرات العالية لأجهزة التسيير والانضباط في الحرم المكي في شهر رمضان على إدارة الحشد الهائل من أجل العمرة بعد توقف عامين بسبب وباء «كورونا». اللافت هنا المفردان: الحشد، والإدارة. فهل هذه «الشعبويات» الهوياتية صارت «حشوداً» بظهور قيادات قادرة على الإدارة مثل مارين لوبن وترمب وبودي بالهند، أو بعبارةٍ أُخرى هل هذه الشعبويات أنتجتها الأزمات العارضة وتزول بزوالها أم هي مدفوعة بكاريزما القيادة ووجوه الوعي الجديدة؟
ينبهنا فرانسيس فوكوياما في كتابه (2018): «الهوية، مطلب الكرامة وسياسات الانتماء» إلى أن الشعبويات تحفزها إرادات «الكرامة» أكثر مما يحفزها النزوع الطبقي إلى رفع الظلم وفرض الفرص المتساوية والعدالة في الأجور والمرتبات. فالذين يقودون حركات «العدالة» أو «الإنصاف» ليسوا أُناساً من أسفل السلَّم، بل هم (نساءً ورجالاً) من أبناء الفئات الوسطى المتعلمات والمتعلمين والذين يطمحون للرقي الاجتماعي والسياسي، وما عاد عندهم صبر على سياسات الأحزاب لتهبهم المراتب التي يطمحون إليها. إنما ما الذي يحرّك من هم دونهم لكي يتشكل «الحشد»؟ إذا قيل إنّ هؤلاء الشاعرين بالظلم أو بالخوف من المستقبل وسياسات التسوية والمجاملة على حسابهم لدى السياسيين المحترفين، هم الذين تحفزهم مشكلات الحياة المعيشية والأُجور، فلماذا لا يتجهون إلى اليسار واليسار الراديكالي العامل بالفعل على هذه القضايا منذ مائة وخمسين عاماً؟! على العكس، وأياً تكن الأولويات أو التراتبيات في أحاسيس الظلم والظلامة فالاتجاه في هذه الحقبة من جانب «الجماهير» نحو اليمين الشعبوي أو الديني. ونحن نقول الشعبوي لأنّ الإحساسات الدينية وإنْ تكن موجودة لدى بعض قادة الشعبويات في أميركا على وجه الخصوص؛ فليست لها في الغالب الأولوية أو الاعتبار الأبرز. وعلى أي حال الشعبويات موجودة في أوروبا وأميركا، إنما ما لعبت الاعتبارات الدينية دوراً رئيسياً في التكون والسواد في أوروبا؛ بينما كانت مهمةً (لدى الإنجيليين الجدد) للتحشد في المرحلة الماضية، وهي لم تَعدْ كذلك اليوم. ثم إنّ الأمر أمرٌ سياسي كبير وصعب أن تتلاقى الأهداف بين ذوي النزعات الدينية الخاصة (ضد الإجهاض - ضد زواج المثليين) مع توجهات السياسي ولو كان شعبوياً (أي غوغائياً نوعاً ما) ضد الصين وضد المهاجرين!
عندما كان غوستاف لوبون (السوسيولوجي الفرنسي بالمعنى الواسع - ونحن نعرفه لأنه كتب «حضارة العرب») في الثمانينات والتسعينات من القرن التاسع عشر يحاول فهم الحركات الجماهيرية في فرنسا وأوروبا، كان يزعجه أنّ اليسار الفرنسي (جماعات الكومونه) هم ضد الدولة الفرنسية، بينما يتحزب الجمهور الألماني لدولته بحجة الوحدة القومية. ويلاحظ إلياس كانيتي (The Crowd) أنّ الجماهيريين اليمينيين هم الذين استأثروا بالوطنيات والقوميات طوال القرن العشرين!
برتران بادي وفيديل (عودة الشعبويات، 2019) يلاحظان أنّ مطالب الشعبويين الجدد في الغرب هي مطالب المحافظينّ نفسها؛ لكنّ المحافظين وهم سياسيون محترفون، مستعدون للتنازلات وبلوغ الحلول الوسط، وهو ما لا يقبله الشعبويون المندفعون للبروز على الساحة السياسية وبالانتخابات أيضاً. وهذا النمط من السياسات الراديكالية هو الذي سماه فريد زكريا (2004): الديمقراطية التوتاليتارية!
إنّ داعي العودة لتأمل الشعبويات الآن، هو الارتباك الذي أحدثته فيها وعليها الحرب الروسية على أوكرانيا. فكل الشعبويات الغربية كان قادتها على الأقلّ يعتبرون الرئيس الروسي حليفاً معتبراً، وما عادوا يستطيعون ذلك الآن بالنظر لدعواهم الدفاع عن الهوية الأصيلة والسيادة، والرئيس الروسي يريد إلغاء الهوية الأوكرانية بالقوة ومن طريق الاجتياح. وصحيح أنه لا يبدو أنّ تحالف مارين لوبن مع الرئيس الروسي قد أثر عليها في الانتخابات؛ لكنّ كل دول شرق أوروبا وإسكندينافيا ووصولاً إلى ألمانيا، سيطر عليها التوجس أو الخوف، وتعود بالتدريج من الناحية الشعبية أيضاً، للتحالف التقليدي مع أميركا. وهذا التوجه المتكون يدعم تحالفات الوسط في أوروبا الغربية وما حولها. ووحدها بريطانيا الخارجة من الاتحاد الأوروبي كانت حليفة أميركا وما تزال، ولذلك هي شديدة الانتصار لأوكرانيا وتُزايد حتى على أميركا!
ولنصل إلى ساحتنا في آسيا والعالم الإسلامي. في العالمين العربي والإسلامي كانت الشعبويات وما تزال شعبويات هوياتية إسلامية. وإذا كان يمكن تعليل ذلك في الحالة الفلسطينية بالضغوط الإسرائيلية ذات الطابع الديني وبخاصةٍ ما يجري في المسجد الأقصى والجامع الإبراهيمي بالخليل كلّ رمضان؛ فإنّ الإسلامويات الجماهيرية الأُخرى في العالمين لا يمكن تعليلها، وبخاصةٍ أنها ما عرضت حلولاً ناجحةً للمشكلات الوطنية حيث وصلت للسلطة أو اقتربت منها. وهي إلى ذلك ظاهرة العداء للدولة الوطنية في العالمين، كأنما هي تسعى بوعيٍ أو من دون وعيٍ لحالة اللاسلطة. ولستُ أزعم أنها الآن في ذروة ازدهارها، إنما البارز أنه ليست هناك حركات جماهيرية أُخرى بارزة أو صاعدة لتكوين بدائل ذات أفق.
ولنصل إلى آسيا غير الإسلامية. هناك ثوران جماهيري في الهندوسية والبوذية يجتمع فيه في الهوية الوطنية البُعدان الديني والقومي. وهو موجَّهٌ أساساً ضد الإسلام باعتباره المهدِّد للهوية الطهورية في الهند وميانمار على سبيل المثال.
إنما هل هي بمقاييس بادي وفيديل «شعبويات» أم تتمايز عنها بعض الشيء حركات الهوية؟ فالهوية طلب للكرامة في الغرب، وهي إحقاقٌ للدين وطهورية لدى المسلمين والهندوس. وفي كل الأحوال فإنّ للهويات ذات الجماهير دائماً عدو أو أعداء، وعند الغربيين الخصم داخلي (مطلب تغيير الفئات الحاكمة)، أما في المشارق فالعدو دائماً خارجي. المشكلة عند الراديكالي الغربي في سياسات النظام. أما عند الإسلامي والهندوسي والبوذي ففي اعتقاد عداء الآخر لدينه وقوميته واستطراداً لدولته حتى وإن كان من البلد ذاته!
وفي النهاية: ما الذي صنع الهويات المتوترة في زمن العولمة؟ وهل سبب نجاحها القيادة الكاريزماتية أم الوصول للسلطة أم الأمران معاً؟
نحن مهتمون بالطبع أكثر بمصائر تجربة الدولة الوطنية في مجالنا والتي كسرتها الإسلاموية الراديكالية في إيران، وعرقلت تطورها في البلاد العربية والإسلامية الأُخرى. ومن هنا يأتي المطلب الدائم والعمل على استعادة السكينة في الدين، وتجديد تجربة الدولة الوطنية، وتصحيح العلاقة مع عالم العصر وعصر العالم؛ دون شعبوياتٍ دينيةٍ أو قومية!

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر