اجتمعت الدول الغربية الكبرى بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا؛ وذلك للمرة الخامسة أو السادسة. لكنها هذه المرة وفي تنبُّهٍ لافت إلى «وحشية» التدخل الروسي الآخر في سوريا، أدانت ذاك التدخل المخالف للقانون الدولي الإنساني، وعادت إلى أوكرانيا مدينة بأشدّ العبارات ما فعلته روسيا وتفعله في تلك البلاد اليوم.
سُرَّ الإعلاميون والناشطون السوريون البائسون في المهجر لتذكر الدول الغربية لهم، وما خطر ببالهم أن يعاتبوها على هذا النسيان الطويل. إنّ الطريف أنّ وزير الخارجية الروسي الشهير لافروف، وفي الذكرى السابعة للتدخل الروسي بسوريا، راح يطالب بالعودة للمفاوضات وتطبيق القرار 2254. وروسيا هي التي تجاهلت القرار، بل القرارات الدولية واخترعت مسار أستانا فأحلّت نفسها وإيران وتركيا محلَّ مجلس الأمن وقراراته ومنذ عام 2018. ولذلك لا أدري لماذا تتذكر روسيا الـ2254 الآن وهي تخالف نظام الأمم المتحدة ومجلس الأمن وتجتاح جيرانها لا لشيء إلاّ لاعتقادها أنهم أضعف منها، ويمكن أن يُحدث الاجتياح لها هيبة في المجال الدولي وبخاصة مع الأميركان والأوروبيين!
الغربيون الذين لشدة الهول النازل بأوكرانيا تذكروا الأهوال التي نزلت بسوريا من روسيا. وقد حدث ذلك عام 2015. لكنّ الروس كانوا قد قسموا جورجيا عام 2008. وأخذوا القرم عام 2014 وأنشبوا النزاع على إقليم دونباس بشرق أوكرانيا. وظلَّ السخط الغربي يومها متوسط الحدّة، ولو لم تحسّ روسيا وقتها بالتخاذل الغربي وبخاصة الأوروبي لما تدخلت في سوريا، بل وعادت الآن لتشنّ اجتياحاً شاملاً على أوكرانيا. لقد اعتقد بوتين أنه حقق مكاسب من طريق الحرب، ويهجم الآن ليحقق مكاسب أكبر وأكثر. ولذلك يجادل المراقبون الأميركيون بأنّ ما يحدث الآن من عقوبات شديدة كان ينبغي أن يحدث عام 2008 وعام 2014! ولو حدث ذلك لما كان الأميركان والأوروبيون يحكّون رؤوسهم الآن كيف يمكنهم الاستغناء عن الغاز الروسي والبترول الروسي والمواد الغذائية الروسية.
وبالطبع لا ينفع الندم على ما فات. لكنّ الأخطاء والتفويتات ووجوه سوء التقدير ما اقتصرت على ذلك. ففي الوقت الذي كانوا غارقين فيه من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم في قتار الغاز والبترول الروسي ويسيرون نحو خط الـ«نورد ستريم» المنقذ، كانوا يشنون حملاتٍ بالغة السوء على دول الخليج وبترولها وأنهم مستغنون ويريدون الطاقة النظيفة ويَدَعون دول الخليج في اقتصادها الريعي وموارده، والتي لن يجدوا أحداً يشتريها حتى لو استغاثوا بالهند والصين (!). الآن يستغيث هؤلاء جميعاً، ولا يرون غنى عن بترول العرب أو تهلك الحضارة (!). وها هم يسارعون حتى إلى فنزويلا التي يحاصرونها من أكثر من عقد لجأت خلاله سلطتها الاشتراكية إلى الصين وروسيا... وحتى إيران! الوفود الأميركية تتوالى لمُراضاة فنزويلا واستدراج بترولها المحاصر إلى أسواق أميركا وأوروبا. وجونسون رئيس الوزراء البريطاني سعى للمجيء إلى السعودية من أجل استحثاثها لزيادة إنتاجها من أجل أمن السوق العالمية (!). وبعد جونسون قد نرى ماكرون وبايدن في السعودية والإمارات، وللغرض نفسه. هل هذه سياساتٌ استراتيجية؟ وهل يمكن تسميتها كذلك وهي تشهد تغيرات جذرية خلال أشهرٍ قليلة؟
محرر الـ«نوفيل أوبزرفاتور» الفرنسية يمضي باتجاهٍ آخر، ويذكّر الأميركيين بغزو العراق والذي كانت فرنسا ضدّه. وقد حصل لعللٍ كاذبة وأوهام آيديولوجية، ومثل أفغانستان ما جلب على الدولة الأعظم غير العار والشنار (!).
وبدلاً من التفكير في حلولٍ مبدعة فيما وراء هجران روسيا أو استقبالها، يعود الحديث إلى الإمبراطورية التي تتراجع أو تنكسر (فيكتور بولمر توماس). يقولون أميركا محاصرة من جديد في قرارها. فهي لا تريد أو تخشى المواجهة مع روسيا لكي لا يُطلّ الإرغام النووي؛ لكنها بمساعداتها العسكرية لأوكرانيا تهدد أمن دول الجوار الأوكراني، وهم الذين تنظر إليهم روسيا اليوم بعيونٍ حمراء! أميركا إذن ليست حرة في خياراتها الاستراتيجية، لأنها «إمبراطورية في حالة تراجع». والأسباب في نظر المتشائمين خليط من التكنولوجي والتجاري والعسكري والاقتصادي والمالي. وهذا كله يثير غضباً وإحباطاً علنيين في «الدول الحرة» الديمقراطية! فهي لا تريد القتال ولا تمتلك الهمة والحماس للمصير إلى أفكارٍ جديدة سواء تجاه روسيا أو تجاه الصين. ولذلك لا تجد في جعبتها غير أحد خيارين: خيار القتال الذي فشلت فيه ومع الدول المتهالكة، فما بالك بالدول المتنمرة والضخمة مثل الصين وروسيا. والخيار الثاني هو خيار العقوبات، وهو خيار العاجزين، وكما يضر بروسيا والصين، فهو يضر بمطلقيه ومنفذيه! أميركا محتارة في تدبير بديل للـ4 في المائة من المواد التي تستوردها من روسيا، فماذا يقول الألمان والأوروبيون الآخرون والذين يستوردون ما بين 30 في المائة إلى 45 في المائة من مختلف المواد وعلى رأسها الغاز والبترول!
فجأة ما عاد البترول ملوثاً للبيئة، ولا عاد الغاز سلعة يمكن الاستغناء عنها!
وإذا كان هذا كلّه هو البضاعة الباقية في سوق الإمبراطورية، فماذا عن روسيا: ماذا تأمل من وراء شنّ الحرب، وماذا ستكسب حتى لو احتلت أوكرانيا أو مضت فاعتدت على بولندا وجمهوريات البلطيق! الغربيون يتوقفون ولو مضطرين عن شراء الغاز والبترول والمواد الغذائية، فماذا ستصنع روسيا بحجمها وجيشها المتضخم وروحها الإمبراطورية الخالدة؟! ستأتي الفكرة بعد السكرة، وبعد الغرق في بحور الدم وخرائب الأنقاض!
لقد افتخر الرئيس بوتين مراراً بأنه «جرّب» أكثر من مائتي نوع من السلاح الروسي المتفوق في سوريا، لكنه عجز عن إعادة توحيد البلاد تحت سلطة حليفه الأسد. وهو متحير الآن في أوكرانيا بين الاستيلاء الكامل الصعب جداً، وبين المزيد من التقسيم على الشاكلة السورية.
إنه العجز في الحالتين والجانبين عن استقبال الجديد الإنساني أو التفكير فيه. الحضارة صناعة التجارة. لكنك بالحرب لا تستطيع ممارسة التجارة. وكلها تجارب مارسها البريطانيون والأميركيون والفرنسيون والإيطاليون والهولنديون في زمنٍ غير بعيد وفشلوا فيها جميعاً. ولأنكم أيها الغربيون ما استفدتم من تجربتي سوريا والقرم، فلن تستفيدوا من تجربة أوكرانيا الثانية أو الثالثة. ولن ترتاح ضمائركم من وراء «هجران» سوريا!