كان المؤتمر الصحافي للعميد تركي المالكي، المتحدث باسم قوات التحالف، يوم الأحد في 26/ 12 حداً فاصلاً بين تكتيك الحلّ السياسي بأي ثمن، والعودة إلى قرارات الشرعية الدولية، وبخاصة القرار 2216، الذي يعني استعادة اليمن بالنضال ما دام وقف العدوان بالدبلوماسية غير ممكن!
قبل عامٍ بالضبط، كانت جهاتٌ سياسية في الحزب الديمقراطي الحاكم الجديد بالولايات المتحدة، تُراهن على سقوط اليمن في الأيدي الحوثية، معتبرة أنَّ قرارات الرئيس الجديد جو بايدن تجاه اليمن وتجاه المملكة، حسمت الأمر لهذه الجهة. وإلى المبعوث الدولي الذي تجدّد، صار هناك مبعوث أميركي لليمن أيضاً وعلى وجه الخصوص. وقد تنافس المبعوثان الأميركي والدولي، من يجتمع بممثلي الحوثي أولاً، ثم بماذا يَعِدُ كلٌّ منهما مقاتلي «التحرير» لإقْناعهم بالعودة للمفاوضات بجنيف أو بعُمان أو الأردنّ إذا كان التعامُل مع «الأجانب» لا يزال صعباً عليهم وسط صراخهم: الموت لأميركا، الموت لإسرائيل!
بعد ثلاثة أشهر أو أربعة من «جهود» اللقاء، تعب المبعوث الدولي قبل الأميركي من الغموض والتسويف. لكنّ «المنتصرين» بحسن أرلو، مندوب «الحرس الثوري»، ومندوبي «حزب الله» اللبناني، صارحوا الأميركي اللطيف والدولي المهذَّب أخيراً بأنه لا لقاء ولا مفاوضات إلا بعد سقوط مأرب بأيديهم!
بعد اتفاق استوكهولم بشأن الحديدة، والذي جرى التوصل إليه بالقتال، سلك الجيش الوطني اليمني والمقاومة وقوات التحالف مسلكاً دفاعياً، باعتبار أنّ الأَولوية لإنفاذ اتفاق استوكهولم بضبط المرافئ ثم وقف النار والدخول في التفاوض السياسي. بيد أنّ شيئاً من ذلك لم يتحقق، وتوالت الإحصائيات لمخالفات الحوثيين حتى بلغت أكثر من سبعين ألفاً، وسط هجماتهم على كل الجبهات وتحقيق تقدم فيها، وتدفق المساعدات الدولية عليهم لإغرائهم بالسلم كما قيل، وتوالي التقارير المنحازة من الجهات الدولية والإنسانية عن مخالفات قوات الشرعية وقوات التحالف؛ وإلى هذا وذاك تصاعد الانقسام بداخل معسكر الشرعية مع المجلس الانتقالي.
لقد أدرك الحوثيون ومن ورائهم الإيرانيون و«حزب الله»، أنّ «استراتيجية» بايدن لا تختلف عن استراتيجية أوباما الاحتوائية (!). فما دام الهدف العودة إلى الاتفاق النووي الذي خرج منه ترمب، فلا بد من محاسنة إيران لكي تقبل بالعودة، وكما ضاع العراق وسوريا ولبنان سابقاً من أجل بلوغ اتفاق العام 2015 مع إيران، فلا بأس إذا استولى الإيرانيون هذه المرة على بلدٍ عربي جديد من أجل استعادة إيران للمجتمع الدولي!
أما إيران فخاضت عبر ميليشياتها في اليمن ولبنان وسوريا والعراق وغزة حروباً علنية للضغط على الولايات المتحدة والأوروبيين والمملكة، غير مستثنية الهجمات البرية والبحرية والمسيَّرات والباليستيات التي طالت مكة والرياض وخميس مشيط وجازان وعسير والمنشآت البترولية والسفن في بحر العرب وباب المندب، وإلى الهجمات شبه اليومية على مخيمات اللاجئين بمأرب!
عندما اعتزم التحالف العربي نُصرة الحكومة الشرعية، انقسم مدَّعو الحكمة والموضوعية إلى أقسامٍ متعددة. منهم من قال، إن اليمن مستنقع وما دخل إليه أحدٌ إلا وخرج خاسراً. ومنهم من قال، إنها مشكلات يمنية داخلية ولا يصح التدخل فيها كما لم يصح التدخل في سوريا والعراق وليبيا. أما الغربيون قبل الرئيس ترمب فاعتبروا الحوثيين مساكين ومظاليم وما ثبت لديهم أنّ لهم علاقة بالإيرانيين!
اليمن أصل العرب وهو في برّه وبحاره سُرّة العرب، فضلاً عن خطورة محيطاته للملاحة العالمية التي تتعاظم تقديراتها باعتبارها بوابة رئيسية للمحيط الهندي. وإلى هذا وذاك وذلك، كان واضحاً منذ البداية أنّ إيران تريد أن تكرر في اليمن المشهد الذي اصطنعته في كلٍ من العراق وسوريا ولبنان: ميليشيا مسلَّحة تستخدمها في أغراضها المختلفة لتهديد المملكة وتهديد الأمن البحري، ولا بأس باستحداث تغيير ديموغرافي مذهبي مثلما حصل في سوريا والعراق!
لقد كان ذلك كلُّه واضحاً لكل ذي عينين، ومن لم يتعلم من دروس الجوار، يضطر إلى التعلم من جراح جسده، واليمن على أي حال مثل لبنان وسوريا والعراق أجزاء في هذا الجسد العربي الذي أسهمت إيران بالقسم الأكبر في شرذمته وإهلاك شعوبه.
قال العميد تركي المالكي، إنّ المملكة لا تحقد ولكنها لا تنسى، ونحن أُناسٌ نصبر ولا نغضب، لكننا إذا غضبنا أقدمْنا. ما عاد تحملُ التخريب الحوثي والإيراني ممكناً. وما عاد تحمل تهديد أمن المملكة ممكناً. ولذلك كان لا بد من العودة إلى أصل المسألة بعد إذ لم تنفع الدبلوماسية، ولم ينفع الصبر الاستراتيجي. فليس الفائز من يضحك أولاً، بل الفائز من يضحك أخيراً. وبالطبع، فإنّ إنقاذ اليمن بعد هذا التغلغل الفظيع صعب وصعب جداً. لكنّ هذه الحرب التي تكلّف نفائس الأرواح والممتلكات، فيها إنقاذ كبير لكل العرب بعد أن امتهن الجميع أمنهم وكرامتهم واستقرارهم ودينهم وبقاء إنسانهم! لقد صارت الإغارة على البيت الحرام مسوَّغة، وصار الإيرانيون يتحدثون عن الاستيلاء على أربع أو خمس عواصم عربية!
بعد هذه السنوات العجاف التي تغوّل فيها البعيد والقريب على الأمن العربي، تتصدى المملكة لحماية الدار والحرمات والإنسان والسيادة.
وليتها عبارات إنشائية أو شعرية تلك التي أذكرها وأُردّدها هنا، كما أنها ليست أحلاماً مثل أحلام استعادة الأندلس، هي تحدياتٌ حقيقية وواقعية جداً. يعاني تحت وقعها وأهوالها زُهاء المائة مليون عربي، منهم ثلاثون مليوناً باليمن وحدها. ويراد لنا أن نستسلم كما استسلمنا للضياعات في سوريا والعراق وليبيا ولبنان. القرارات الدولية خير وبركة. لكنها ليست بديلاً عن الاهتمام العربي والالتزام العربي. فالجمرة لا تُحرق إلا في مكانها. وليست الثكلى كالمستأجرة. ثم إنّ القرار الدولي رقم 2216 باليمن واضح وصريح، إنما من الذي ينفّذه، وكذلك القرار الدولي رقم 2254 في سوريا، والقرار رقم 1559 في لبنان. عندما صدر القرار لصالح سيادة لبنان عام 2004 كان المقصود به إخراج الجيش السوري والميليشيات، وخرج السوريون بينما ازدادت الميليشيات الإيرانية تسلحاً. «حزب الله» شديد الإيذاء للبلدان العربية في لبنان وسوريا واليمن. وقد قبض الأميركيون على أعضاء منه بالعراق، والمصريون على أعضاء بالسويس، والكويتيون بالكويت، وهو مُسهمٌ أساسي بالفتنة والحرب باليمن وعلى اليمن.
نعم، «لا بد من صنعا وإن طال السفر». تتحرر صنعاء فيتجدد الأمل في بيروت ودمشق وبغداد وغزة. قيل إنه في زمن الحروب الصليبية والمغولية عمل البعض لدى الغزاة. لكنني لا أظن أنّ هناك زمناً مشابهاً عند العرب لهذا الزمن، الذي نجد فيه مرتزقة في كل مكان. فيا مملكة الشرفاء والشجعان: «لا بد من صنعا وإن طال السفر»!