تحولت «طالبان» من حركة إلى سلطة بعد انسحاب القوات الأميركية وقوات حلفائها في الناتو.
تكونت الحركة فكراً وتنظيماً في ظروف محلية ودولية لم يبقَ منها إلا القليل. وتشكلت في مجملها من طلاب درسوا العلومَ الدينية بمنهج متشدد، وكانت قيادتها تمثل نخبة مقاتلة لا تسمع إلا نفسها، ولا تقبل من يخالف أي جزئية من أفكارها أو نهجها السياسي. الملا عمر الذي كان زعيماً للحركة، مثَّل قمة التشدد في فكره وسلوكه الإنساني والاجتماعي. بعد وصول حركته للحكم، أصرَّ على البقاء في قندهار، ولم يقم في كابل عاصمة البلاد، مبرراً ذلك بقوله، إنه لا يقبل أن يصافح الدبلوماسيين الأجانب الكفرة؛ لأنهم نجسٌ، مستشهداً بالآية 28 من سورة التوبة « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
أي آيديولوجيا، دينية كانت أو غير دينية، لا تخلو من مساحة للتشدد حتى داخل المنظومة الآيديولوجية الواحدة، هناك قوس قزح من التباين بين المنضوين في دائرتها. عندما تكون حركة ذات فكر قائم على المواجهة الحدّية مع الآخر، يتخلَّق في أحشائها مخاضٌ من العنف يقود إلى صدام بين قيادات الحركة وينساب إلى مجمل مكوناتها. «طالبان» التي سيطرت على دولة أفغانستان مؤخراً تواجه أكثر من اختبار سياسي واقتصادي وإداري وثقافي واجتماعي.
البنية الأساسية لقيادات «طالبان» هي دينية متشددة، وهدفها المقدس هو تأسيس إمارة محكومة بالشريعة. عندما حكمت الحركة البلاد بين 1996 و2001، لم تقم بأي خطوة لمأسسة الدولة، ولم تضع خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعاشت البلاد من دون قوة تكنوقراط تدير دواليب الدولة وفق تراتبية وظيفية وملاك وظيفي وطني شامل. بقيت عقلية - الحركة - هي المسيطرة بالكامل تقريباً ولم تقم الدولة وفقاً للأسس المعروفة. كانت روح القتال هي الطاغية على كل شيء مع قوى في الداخل لأسباب طائفية عرقية ودينية وجهوية. منطقة الشمال التي يتزعمها أحمد شاه مسعود لم تخضع لـ«طالبان»، والعداء المستمر والعنيف مع طائفة الهزارة الشيعية لا تهدأ نيرانه. احتضان الحركة للمجموعات الإسلامية المتطرفة من كل أنحاء العالم جعلها هدفاً لقوى إقليمية ودولية، وكان تفجير تنظيم «القاعدة» برجي نيويورك بداية نهاية سلطة الحركة وسقوطها واحتلال البلاد. التحديات التي تواجه الحركة اليوم تمتد في البلاد طولاً وعرضاً. الفقر يجثم على أكثر من نصف الشعب الذي اعتمد سنين على المساعدات الخارجية، والجفاف يكاد يقضي على الأخضر والأصفر وهروب الخبرات الإدارية والفنية إلى الخارج، والأخطر من كل ذلك هو التناقضات التي تهزَّ جسد الحركة التي تعج بالمتشددين الذين يرفضون الحديث عن الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وإشراك بعض عناصر النظام المنهار في الحكومة القادمة، ويصرّون على تطبيق ما يعتبرونه نصوص الشريعة، وما فيها من الحدود والعقوبات الجسدية وتتقدمهم مجموعة حقاني الباكستانية.
تنظيم «داعش» المنتشر بقوة في ولاية خراسان يكفّر حركة «طالبان» لدخولها في تفاوض مع الولايات المتحدة وحلفائها، ويصرّ على محاربة حركة «طالبان» ولن يتردد في القيام بتفجيرات انتحارية في العاصمة كابل وخارجها، والتفجير الذي شهده مطار كابل في 26 أغسطس (آب) الماضي وأودى بحياة العشرات، هو البيان الأول الدامي لـ«داعش» المعلن عن وجودها وقوتها في قلب عاصمة حركة «طالبان». قوات أحمد شاه مسعود في بانجشير تمثل تهديداً قوياً لـ«طالبان» وانفلات الأمن والحرابة المنتشرة في مناطق عدة من البلاد، أضف إلى ذلك البقع العرقية والدينية غير الإسلامية المنتشرة في بقاع شتى، وماذا سيكون موقفها من حكم «طالبان»، شريحة أفغانية كبيرة هم الشباب الذين كبروا وتربوا في العقدين الأخيرين وعاشوا حياة بها مساحة واسعة من الحرية والانفتاح بمن فيهم البنات، هل سيخضعون في صمت لما تفرضه «طالبان» من تشدد وانغلاق، أم سيشكلون صفاً مقاوماً لن يتردد في حمل السلاح لمواجهة التضييق الذي ليس من السهل بالنسبة لهم التعايش معه، وتبقى القبائل خلايا يقظة لإشعال حروب فوق الجبال وحولها عابرة للزمان والمكان. كل ذلك يشكل براكين متحفزة لشلّ كيان لم يولد بعد. السؤال الساخن الذي يلتف حول رقبة «طالبان»، هل ستبقى حركة أم تتحول إلى سلطة تدير دولة مهترئة وهل لها القدرة على توفير احتياجات ملحة للناس من غذاء ودواء وفرض الحد الأدنى من الأمن، في مناطق البلاد الواسعة والجبلية التي تفتقر إلى الطرق والاتصالات؟
ما زالت «طالبان» تموج في منزلة الحركة التي لم تعبّر بعد عن نمط النظام السياسي الذي ستتبناه، هل ستكون دولة أفغانستان جمهورية أم إمارة أم مملكة، أم ستستعير النموذج الإيراني حيث المرشد الأعلى هو الحاكم المطلق، يحتكر القرار وتبقى قوات الحركة أداة مسلحة في يد المرشد الأعلى؟ «طالبان» هي الآن حركة في منزلة معلومة تنتظرها منزلة مجهولة وهي الدولة، التي من الصعب التكهن الآن بملامحها وبنيتها السياسية والإدارية وتوجهاته الخارجية. أغلب الدول وخاصة الأوروبية تضع شروطاً ليست بالهينة أمام قادة «طالبان»، وخاصة موضوع حقوق الإنسان ووضع المرأة وحقها في العمل والتعليم، وكذلك حرية الرأي وسيادة القانون وتربط كل ذلك بالمساعدات التي تقدمها هذه الدول لأفغانستان. وهناك اختبار أساسي للنظام القادم وهو علاقته بالمجموعات المصنفة إرهابية، وهل ستكون أفغانستان حاضنة لهذه المجموعات؟
الدول المجاورة لأفغانستان لها مصالح ومخاوف، خاصة روسيا والصين والهند وباكستان وإيران وتركيا ودولاً أخرى في وسط آسيا. هناك من يتحفز للاستثمار في هذه الدولة التي تختزن أرضها معادن ونفطاً وغازاً، وتحتاج إلى بنية تحتية كاملة تكلف المليارات، والصين على رأس قائمة المرشحين للاندفاع إلى أرض في قاعها أموال، وعلى سطحها جبال وبينهما مستنقعات من الدم، لكن الأمن هو الذي يصنع قرار المستقبل ويرسم خريطة المنزلة الثانية لأفغانستان تحت قيادة قوتها المسلحة القديمة الجديدة «طالبان»، لكن تبقى المسافة بين المنزلتين طويلة جدا وبينهما مستنقع كبير من الدم يعلوه غبار وأصوات لا تخفت تندفع من كل الجهات.