من ينتقم لقتيل الحشد
لم تعد أوامر المسؤولين الإيرانيين تجد صداها بالكامل لدى الميليشيات الموالية في العراق، وهو ما كشفت عنه الزيارات الأخيرة التي قام بها مسؤولو الحرس الثوري إلى بغداد للضغط من أجل التهدئة مع الولايات المتحدة إلى ما بعد المحادثات النووية، إلا أن ردود الميليشيات سارت في اتجاه آخر.
وجلب حسين طائب رئيس جهاز الاستخبارات في الحرس الإيراني أوامر واضحة للميليشيات تقضي بالتهدئة، خلال زيارته لبغداد قبل أيام.
وظهر بعدها أبوعلي العسكري، المسؤول الأمني في كتائب حزب الله بالعراق، ليقول إن “استهداف البعثات الدبلوماسية مرفوض من قبل المقاومة العراقية”، داعيا بقية الفصائل إلى “حفظ قواعد الاشتباك وعدم حرق مراحل المعركة مع العدو”.
غير أن مراقبين عراقيين يؤكدون أن الهدف من تصريحات العسكري قد يكون رفع الحرج عن إيران في العلاقات مع الولايات المتحدة، لكن لا أحد يأخذها على محمل الجد خاصة أن الميليشيات باتت تتعمد التحرك بشكل منفرد، وتنفذ عملياتها في أي وقت دون أن تأخذ في الحسبان ردود الفعل الخارجية، بما في ذلك ما يتعلق بتحفظات إيران نفسها.
وبدا واضحا أن كلام العسكري هو مناورة ظرفية، حيث قال في تلك التصريحات “على العدو أن يفهم الرسالة أيضا، فالرد على الرد سيكون قاسيا، ويوسع دائرة الاستهداف إلى نقاط لم تكن في حساباته، ويزيد عيار الضربات لتصل إلى مراحل قد لا يعود إلى ما قبلها”، وهو ما يعني أن خيار التصعيد قائم بقطع النظر عما قاله رئيس استخبارات الحرس الثوري.
وقبل زيارة طائب بشهر واحد زار إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس في الحرس الإيراني، بغداد وطالب في اجتماعه مع قادة الميليشيات بالتهدئة إلى ما بعد مفاوضات البرنامج النووي. لكن طلبه قوبل بالتحدي، حيث قال له أحد قادة الميليشيات “كيف نلتزم الصمت بينما لم يتم الرد على مقتل قاسم سليماني القائد السابق لفيلق القدس، وأبومهدي المهندس القيادي البارز في الحشد الشعبي في غارة أميركية بطائرة دون طيار في يناير؟”.
ومع ذلك لم يوبِّخ قاآني قادة الميليشيات خلال الاجتماع، بل أخبرهم بأنه يتفهم مخاوفهم. ونوعت الميليشيات عملياتها ضد الوجود الأميركي في العراق، ما يظهر أن الأمر ليس ارتجاليا، وإنما تحكمه جهة عليا تنقل عبره رسائل إلى الجهات المعنية. وخلال أيام معدودة هاجمت الميليشيات باستعمال طائرات مسيرة إيرانية الصنع مواقع وجود الأميركيين بدءا بالسفارة في بغداد، مرورا بمطار أربيل، وصولا إلى قاعدة عين الأسد غرب العراق.
وتوضح الردود التي سمعها قاآني خلال زيارته لبغداد أن إيران لم تعد قادرة تماما على التحكم في الميليشيات بالرغم من الولاء الذي تظهره لها كل تلك الفصائل، ولكن القيادات المختلفة صارت لها حسابات ومصالح خاصة، كما أن التنافس بين تلك القيادات بات يغذي هذا الانفلات على الأرض.
وتبنّي أي فصيل العملية التي ينفذها مقاتلوه سيزيد من شعبيته بين جمهور الميليشيات، كما يظهر قوته لإيران ويزيد من فرص حصوله على الدعم من طهران.
ويقول حمدي مالك المتخصص في شؤون الجماعات المسلحة إن الهدف الأول للمجموعات الموالية لإيران هو “تفادي خسارة مصداقيتها داخل قاعدتها الشعبية”.
ويذكر مراقبون أن تراخي قبضة إيران على الميليشيات يعود -في جانب منه- إلى أن دعمها لم يعد سخيا كما كان في السابق بسبب العقوبات وتأثير الأزمة الاقتصادية والصحية جراء انتشار وباء كورونا، فضلا عن ثقل تكاليف الحرب في اليمن وسوريا، ما جعل قادة الفصائل يرسمون خططا خاصة لتحصيل دعم إضافي.
وانقطعت المساعدات الموجّهة للجماعات بشكل كبير منذ أن بدأت العقوبات الأميركية تشلّ الاقتصاد الإيراني. وتفاقمت الانقسامات بين الفصائل، مع تزايد المنافسة بين الميليشيات والسياسيين الشيعة.
وقال زعيم سياسي شيعي لوكالة أسوشيتد برس “ليست إيران كما كانت من قبل، في سيطرتها على قادة الميليشيات بنسبة 100 في المئة”.
وكان أقوى صوت لقادة الميليشيات هو زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، عندما قال بعد أيام معدودة من اجتماعات قاآني مع الميليشيات إنهم سيستمرون في استهداف المحتل الأميركي ولن يفكروا في المحادثات النووية بين إيران والغرب، مشددا على أن “هذا القرار هو قرار عراقي”.
واعتبر السياسي العراقي المستقل جبار المشهداني أن تكرار الهجمات الصاروخية عبر الطائرات المسيرة من قبل الفصائل التي تتلقى أوامرها من قيادات إيرانية بشكل مباشر قد يعقّد مائدة التفاوض في فيينا.
وأضاف المشهداني في تصريح لـ”العرب” أن ما زاد الأمر تعقيدا هو استهداف أربيل عاصمة كردستان، وهو ما يعني توسيع رقعة الجبهة وساحة المواجهة التي تأمل منها طهران تحقيق مكاسب سياسية وورقة ضغط تفاوضية دون أن تتحمل تبعات ذلك أمام المجتمع الدولي.
وبقطع النظر عن تعارض المصالح بين إيران والفصائل الموالية لها، وما إذا كان حقيقة أم مناورة، فإن الأميركيين ينظرون إلى الأمر من جانب عملي، حيث يعمدون إلى قصف مواقع تلك الميليشيات بهدف إضعاف نفوذها ودفعها إلى التوقف عن استهداف مصالحهم.
لكن الأكاديمي والمحلل السياسي العراقي علي الربيعي يعتقد أن غاية الإيرانيين من إرخاء قبضتهم للميليشيات وفسح المجال أمامها لتكثيف هجماتها هي “الضغط على إدارة جو بايدن لمعرفة حدود تحملها الضربات التي تستهدف قواعدها أولاً، وحتى يكون ذلك من وسائل لعبة مفاوضات النووي ثانيا، وللتأكيد على قوة النفوذ الإيراني ثالثا”. واعتبر الربيعي أن تناقض التصريحات “لعبة إيرانية مكررة ومعروفة من خلال القيام بالفعل والتصريح بنقيضه، أو نفي القيام به”.