تركيا دخلت مرحلة انكماش في اقتصادها، مع انخفاض غير مسبوق في عملتها أمام الدولار، وبطالة مرتفعة. وجاءت جائحة «كورونا» لذر الملح على الجرح. خلال عام واحد، حاولت تركيا في كل الاتجاهات البحث عن موارد؛ غزت شمال العراق، مناطق النفط، فتصدت لها الولايات المتحدة، خصوصاً بعد أن اتضحت معالم الشراكة مع تنظيم داعش، وأن أنقرة تشتري منها النفط بأسعار السوق السوداء. ثم دخلت البحر الأسود للتنقيب عن النفط والغاز فاستقبلها الدب الروسي. ثم سيرت حفاراتها في البحر الأبيض المتوسط للتنقيب فواجهتها أوروبا. ثم اختارت ليبيا، البلد الغني بالنفط، والمشروع الموعود لإعادة البناء، وهي اليوم متمكنة في ليبيا أكثر من ذي قبل. فهل ستخرج منها بخفي حنين؟
فيما يبدو، أن أنقرة وجدت في ليبيا مبتغاها من أكثر من جانب؛ الأول تكريساً لآيديولوجيا الإخوان المسلمين حيث تدعمهم تركيا من خلال دعمها للميليشيات في غرب ليبيا بإمدادات الأسلحة عبر البحر والجو. والجانب الثاني من خلال وقوفها مع رئيس الحكومة السابقة، الذي وقعت معها اتفاقية تعاون عسكري واقتصادي، وتحديداً ما يتعلق بإعادة بناء مرافق الدولة التي دمرتها الحرب، كما أنَّ الميليشيات المؤثرة الآن في المشهد الليبي في طرابلس ومصراتة تدين لتركيا بالولاء.
تركيا تخوض حروباً باسم الحق، أو الدفاع عن النفس، حتى إنها اخترعت قصة غريبة بترسيم حدودها البحرية مع طرابلس العاصمة الليبية، وحالياً، بعد أن ذهبت مشاريع إعمار غزة إلى مصر، عاودتها فكرة إنشاء مسار يربط تركيا بغزة! محاولات حثيثة بهدف تحرير قيودها الاقتصادية الخانقة وتخفيف الضغط الداخلي على الرئيس. ولأن الحروب ثغور في جسد الدولة، فهي تنتقي المناطق الرخوة التي أنهكتها النزاعات، ومهما أظهرت من حسن نية في سبب تدخلاتها، إلا أنها عازمة على امتصاص موارد الدولة التي تتطفل عليها. قبل أيام، تجرأ وزير الدفاع التركي على الدخول إلى ليبيا، والالتقاء بضباط القاعدة العسكرية التركية من دون علم الحكومة الليبية. وهذا تصرف يدل على الضعف السياسي الليبي من جهة، والإصرار التركي على البقاء في ليبيا على الأقل حتى إبرام عقود البناء وشراكات مشاريع الطاقة، من جهة أخرى. رجال الأعمال الأتراك يسوقون لشركاتهم لدى المسؤولين الليبيين، أهمها شركات الطاقة، والأدوية والمقاولات، وحتى المصارف والتجزئة. يرون في ليبيا بلداً غنياً لكنه مدمر، وعقود البناء مغرية، بل وأكثر ربحاً من إعمار غزة الذي يعتمد على هبات الدول المانحة.
سياسياً، لا تزال دوائر صنع القرار في ليبيا تضم أسماء محسوبة على الإخوان المسلمين أو ميليشيات مصراتة، ولهم صوت وتأثير، وهؤلاء يدينون بالوفاء للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، كونه وقف معهم أثناء وقبل حصار المشير خليفة حفتر لطرابلس، وأقل ما يقدمونه بحسب رأيهم هو تسليم المشاريع الوطنية لإعادة البناء لشركات التشغيل التركية. من حيث المبدأ، ليبيا لديها حرية اختيار شركائها، لكن من حيث التفصيل فإن تصريحات إردوغان حول إرث الدولة العثمانية، وحقها في استرداده يثير الكثير من الشكوك، لأنها تبرر للتدخلات أو الغزو كما حصل في العراق وسوريا، أو حتى مدينة سواكن في السودان، والتي باعها الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى الشركات التركية. أن تقوم دولة بحيازة عقود الإنشاء والبناء في دولة أخرى لا يعني أن تكون فيها عسكرياً، وتفرض هذه الشركات قسراً. إردوغان يمني نفسه بعودته خليفة للمسلمين، وهو في داخل تركيا يمر بأزمة ثقة حقيقية ليس فقط من الشارع بل وحتى من أصدقائه القدامى الذي انقلبوا على سياساته. بعد كل هذه السنوات من التدخل في الصراعات والمشاركة فيها إن كان في العراق، وسوريا، وغزة، ومصر، وقطر، والسودان، وليبيا، وأرمينيا، خرجت تركيا بديون أكبر، وأعباء أثقل. واليوم حيث تنبهت لأخطائها الاستراتيجية واستعدائها لأطراف عربية لها ثقلها في المنطقة العربية، بدأت أنقرة ترسم لسياسة العودة إلى موقعها الصحيح، وكانت مصر محطتها الأكثر أهمية حيث بادرت تركيا بمحاولات رأب الصدع والتحول إلى تحسين علاقتها مع القاهرة.
ولمن يتساءلون عن الأسباب التي دفعت تركيا لاسترضاء مصر وتحسين علاقتها معها، فلأن مصر اليوم ليست مثل البارحة. لقد نهضت على قدميها، وعادت لتأثيرها على ملفات المنطقة، كما رأينا قبل شهر في أحداث الحرب على غزة. كما أنه لا صلح مع الدول الأكبر عربياً بدون مصر، ومصر تهمها ليبيا، لذلك فإنَّ المفاوضات حول عودة العلاقة التركية المصرية تصطدم بالملف الليبي، والذي من الممكن حسمه بشكل سلمي من دون تأخير أو تنازع؛ تخرج القوات العسكرية التركية، ويتوقف تدخلها السياسي، مقابل عدد متفق عليه من مشروعات الإعمار.