كان الرئيس الراحل حسني مبارك - رحمه الله - ممن ذاقوا مرارة الموقف الأميركي عندما أعطى الرئيس باراك أوباما الإشارة إلى الجماعات الثائرة في ميدان التحرير بالقاهرة تحت قيادة «الإخوان المسلمين» بأنه على الرئيس أن يرحل والآن، و«الآن» تعني تماماً «الآن». لم يكن ذلك يعني ساعتها خلافات حول مصالح استراتيجية في المنطقة تخص أميركا، وإنما كان نظرة إلى العالم والتاريخ، فمن مذكرات الرئيس الأميركي نعرف أن دينيس روس المسؤول في مجلس الأمن القومي الأميركي كان هو الذي قاد وجهة النظر التي قالت بأن الرئيس يواجه لحظة تاريخية، وعليه أن يقرر عما إذا كان يسير مع التاريخ أو ضده. ما حدث بعد ذلك معروف ومسجل، ولكن ما لم يسجل بعد في الدوائر الأميركية بما فيه الكفاية أن إدارة أوباما لم تكن هي المطلقة في مصر، وإنما كانت إرادة الشعب المصري هي التي حسمت الأمر في النهاية عندما عكست إرادة التاريخ الأميركية و«الإخوانية»، وجرت الإطاحة بحكم «الإخوان» بعد عام واحد من وجودهم في السلطة. ما لم يسجل أيضاً بما فيه الكفاية أن القرار المصري استقر كما نراه الآن عندما قامت المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت والبحرين بتقديم العون لمصر، ولم يكن مالياً فقط، وإنما تعبئة موارد دبلوماسية وسياسية في المنطقة والعالم لكي يحصل المصريون على ما يريدونه من استقلال القرار. كانت لحظة حاسمة تماماً مثل لحظة سابقة، قيل فيها في القاهرة إن العدوان على الكويت، وتهديد السعودية، لن يمر، ولم يمر؛ وتحررت الكويت، وزال التهديد عن السعودية، بفعل تحالف عربي وعالمي، لعبت فيه الولايات المتحدة دوراً هاماً، لكنه ليس الوحيد. كان التاريخ في الحالتين يجري تقرير مصيره من بداية رابطة عربية.
ولكن واشنطن كانت وقتها تحت قيادة جمهورية واقعية وعملية للرئيس جورج بوش الأب، دخل الكويت وخرج منها، حتى العراق أبقاها جزءاً من توازنات دقيقة للقوة في المنطقة. لكن أميركا لا تبقى على حالها كثيراً، فرغم الحديث كثيراً عن المؤسسات فيها، فإنها تتقلب في سياساتها، وخلال العقدين الأخيرين تقلبت كثيراً. وحينما خرجت من حكم الديمقراطي المحافظ بيل كلينتون فإنها دخلت إدارة المحافظين الجدد مع جورج بوش الابن الذي سلم العراق لإيران والإرهابيين، ومنه إلى الليبراليين الجدد أيضاً مع باراك أوباما الذي كانت له نظرة إيجابية إلى «الإخوان المسلمين»، ومن هذا إلى القوميين البيض مع دونالد ترمب، والآن من بعده إلى جاء رئيس ديمقراطي آخر، يريد المصالحة مع الجميع، دولاً وإرهابيين. في هذه الرحلة خاضت أميركا حرباً ضارية ضد الإرهاب، ثم تراجعت وعقدت اتفاقاً نووياً مع إيران، وتركت لها أن تطلق العنان لمدى صواريخها ولأعوانها في 4 دول عربية، وجاء ترمب لكي ينسحب من الاتفاق، ولكنه لا يفعل شيئاً مع استمرار العدوان الإيراني، ثم يعود بايدن لكي يرفع صفة الإرهاب عن الحوثيين، فيأخذوا من ذلك إشارة لشن هجمات على مأرب وعلى مناطق مدنية في السعودية. المسألة هنا هي هكذا هو حال الولايات المتحدة ونظامها السياسي وما يشغلها مع كل دورة انتخابية، وتبادل السلطة بين الجمهوريين والديمقراطيين، وما تدور فيه بين الانقسام والتوحيد. لم تعد الولايات المتحدة كما كانت منذ الحرب العالمية الثانية عندما صكت سياسة خارجية مستقرة تنتهي عندها الخلافات الداخلية عندما يصل الأمر إلى وراء اليابسة الأميركية إلى بحار العالم الواسعة. الغريب أنه في ذات اللحظة التي وصلت فيها الولايات المتحدة إلى قيادة العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وذيوع «العولمة»، باتت قضيتها الأساسية في العالم كيف تخرج من العراق وأفغانستان!
هناك مثل عربي يقول: «ما حك جلدك مثل ظفرك»، وتعريف الموقف في المنطقة حالياً هو أنه نتيجة الاختلال الذي جرى منذ ما سمي بالربيع العربي أن الدول الإقليمية استغلت الخلل للتوغل في الإقليم العربي، والعدوان عليه، مرة بالإرهاب، ومرة بتحريك عناصر وطوائف داخلية، ومرات بالعدوان المباشر أو الاعتداء على مصالح حيوية.
اليوم نحن أمام درجة كبيرة من التنسيق العسكري والمناورات المشتركة والتدريب جرى بشكل منتظم بين دول عرفت باسم التحالف الرباعي. وفي الوقت الذي جرت فيه عمليات لتقوية القدرات الدفاعية للدول العربية المعنية، فإنها بدأت عملية أخرى لا تقل جذرية وعمقاً لإصلاح داخلي، يأخذ في اعتباره ترتيبات استراتيجية في شرق البحر المتوسط وشمال البحر الأحمر، وعقد اتفاقيات سلام مع إسرائيل. اللحظة الراهنة هي لحظة استراتيجية بامتياز، يوجد على جدول أعمالها العدوان الإيراني والتركي والإثيوبي، فضلاً عن القضية الفلسطينية؛ والتعامل معها لا بد أن يكون استراتيجياً، كذلك تكون فيه القوة العسكرية واحدة من مقوماته، ولكن ليس كلها، فالإصلاح لا بد أن يستمر، والتعامل مع الأطراف الإقليمية الأخرى يقوم على أساس مدى المصالح المشتركة، ولا بد من تكامل أدوات السياسة الخارجية، من دبلوماسية وسياسية وقوة عسكرية؛ ومع كل ذلك قدر هائل من الصبر والحكمة.
الغرض الأساسي من كل ما سبق هو أنه لا بد من تغيير توازن القوى في المنطقة بحيث تصل رسالته إلى الأطراف المعتدية، وأيضاً إلى الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى التي عليها أن تدرك مدى الأخطار الجارية على الاستقرار الإقليمي والدولي. واشنطن تظل مهمة في كل الأوقات، ولكن الاعتماد عليها له حدود كما أسلفنا، وظهرت هذه الحدود في الدور الذي لعبته في إدارة الأزمة الليبية التي كادت تتفجر في العام الماضي نتيجة السلوك التركي الذي مزج ما بين الدولة التركية والإرهاب. ما تم التوصل إليه الآن من نجاح نسبي في الأزمة الليبية، أخذها على أبواب الاستقرار، كان نتيجة جهد مصري وعربي وأوروبي ودولي؛ امتزج فيه الحزم الذي وضع خطأ أحمر، مع الدبلوماسية والسياسة التي وضعت الحلول وتجاوزت المآزق. الآن، فإن الأزمة اليمنية تحتاج جهداً عربياً مماثلاً. ولكن الأمر ليس التعامل مع الأزمات، الواحدة بعد الأخرى، بقدر ما يستلزم نظرة استراتيجية واعدة للتعامل مع أوضاع المنطقة، وكيفية التعامل مع الأطراف غير العربية في الإقليم من ناحية، وزيادة القوة الذاتية من ناحية أخرى. الحكمة تقتضي مثل هذه النظرة الشاملة التي تعيد التوازن الضروري، وتوسع من نطاق التحالفات، ليس بالعدد، وإنما بالنوعية والوعي والقدرة.