ليست مرة واحدة، بل مرات، التي يجادل فيها مجادل، كيف تقول عن فلان إنه إخواني أو متعاطف معهم، وهو رجل مرن أو ليبرالي أو حتى لا يأنف من احتساء النبيذ أو «البصبصة» على النساء. هذا تصوير هزلي للجدل طبعاً، لكنه ليس هازلاً كليّة، بل يشير إلى نوع من التسطيح والتسخيف لحقيقة الانتماءات السياسية والتعسكرات الحزبية، التي تهرس في طريقها، كما تهرس جنازير الدبابات، كل الحساسيات الأخرى. سبب حديثي اليوم، مقالة ذكية للكاتب بهذه الصحيفة، الأستاذ خالد البري، وللمفارقة أيضاً مقالة ثانية، للناقد السعودي الحذق، علي العميم بهذه الجريدة، قبيل أيام، لماذا مفارقة؟! لأنَّ العميم واصل في سلسلته النقدية عن تاريخ الأزهر وشيوخه والحكومات والإخوان... إلخ، وكان يتحدث عن نقده على مقاربات «زكريا البري» وزير الأوقاف المصري مطلع الثمانينات... إذن نحن أمام رجلين من عائلة البري، ولست أعلم هل من صلة حقيقية بين البرييّن، القديم والجديد.
المهم، خالد البري، في التقاطة ذكية، تحدث عن علاقته الشخصية بالمفكر المصري الشهير عبد الوهاب المسيري، الذي كان ماركسياً ثم تحول لمفكر إسلامي يثير إعجاب المستثقفين من أبناء الإسلاميين. العمل الشهير للدكتور المسيري هو موسوعته عن اليهودية والصهيونية، ويرى خالد البري أن المثقفين العلمانيين اليساريين ربما استلهموا نموذج الحركة الصهيونية التي راهنت على الشعور الديني وحولته لشعور قومي ثوري لليهود، وصارت بهذا المعنى جاذبة للنشطاء اليهود حتى من أصحاب الخلفيات العلمانية، ما داموا ينشطون ضمن هذا السقف ولهذا الهدف.
تحالف مثقفي اليسار العرب من ورثة العناد الماركسي القديم، مع الحركات الإسلامية «الثورية» ليس به وهم، فهم ظهير ثقافي وربما علماني فقط، لكن القيادة والقاعدة هي لدى الإسلاميين. يقول خالد البري: «يملك الإسلامجية، في هذا التحالف، سيف المعز، الإرهابيين، ومصحفه، دعاة الصحوة، وذهبه في خزائن الدوحة. ومن موقع القيادة، يستطيع الإسلامجية أن يشغلوا الفئة من اليسار التي صنعت على عينهم. وهي الفئة التي يقدمونها إلى العالم، وإلى الطبقات الوسطى. فيقول الناس: لا يمكن، هذا ليس إخوانياً!». ويضيف في تصوير ظريف: «التقى فكر الفرق الإسلامية بالراديكالية اليسارية الثورية، والنتيجة استمرار عقيدة (الخروج على الحاكم) بأسماء معاصرة». بدل «قتال الطائفة الممتنعة عن تنفيذ حكم من أحكام الله» صار «مقاومة الفاشية». أما ناقدنا الحذق علي العميم في مقالته الموسومة بهذه الجريدة بـ«الصانع الأول لنكتة الإخوان الشيوعيين»، وفي استطرادة عميمية ثمينة كعادته، قال وهو ينقد روايات الوزير والأزهري زكريا البري عن تاريخ الأزهر والإسلاميين:
أنفي عنه أنه من «الإخوان المسلمين» استناداً إلى تصريح صحافي أدلى به إلى مجلة «المصور» بعد اعتقالات 3 سبتمبر (أيلول) الشهيرة عام 1981، وكان وقتها يشغل منصب وزير الأوقاف. فقد قال في هذا التصريح: «إنه لما طردت الشيوعية من مصر، لم تسكت، بل حاولت التزيي بزي الإسلام وإثارة قضايا دينية، وكلها حركات مقصود بها إثارة الفتنة. أي إثارة خلافات إسلامية - إسلامية، وإسلامية - مسيحية».
وأخيراً أختم بهذا المثال الكافي، في حوار له مع موقع «إسلام أونلاين»، المروج لأدبيات الإخوان، يقول المثقف الفلسطيني منير شفيق، شارحاً كيف تحوَّل من المسيحية للإسلام، ومن الماركسية للإسلاموية، بحيث صار من الرموز الثقافية للجماعات الإسلامية. يقول: «خلفيتي الماركسية كانت تحاول دائماً أن تدرس القضايا التي تواجه الأمة دراسة أصلية غير معقدة على أي من الموضوعات المسلَّم بها في الماركسية، وكنا نسعى دائماً للاقتراب أكثر فأكثر من نبض الشعب».
المثير للسخرية أنَّ بعض هذا اليسار المتأخون، يكون في شراسة الذبّ عن الجماعة، شديد الجسارة والحماسة والحمية!