أول مرة سمعتُ فيها صُراخاً طائفياً ومذهبياً في شوارع بيروت كان في التاسع أو العاشر من شهر مايو (أيار) عام 1984. فيومها دخلت ميليشيات حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي إلى بيروت الغربية على أثر خروج الجيش اللبناني منها ومن الضاحية. كان الرئيس أمين الجميّل منهمكاً في المفاوضات مع إسرائيل لكي تنسَحبَ من لبنان الذي احتلت مناطقه الساحلية وصولاً إلى بيروت عام 1982، كما كان مصراً على «استعادة» السيطرة على بيروت الغربية والضاحية بعد انسحاب الفلسطينيين ثم السوريين ثم الإسرائيليين منها. وقد شعر المسلمون سنةً وشيعةً ودروزاً بضغوط الجيش العائد إلى المناطق التي غادرها مع المخيمات عام 1975، وتذمر من ذلك علناً المفتي الشيخ حسن خالد والشيخ محمد مهدي شمس الدين وشيخ عقل الطائفة الدرزية. قال المفتي خالد يومها مخاطباً الرئيس أمين الجميل: لا تعاملوا بيروت والضاحية، كما عاملهما الصهاينة! ثم إنّ السوريين الذين استعادوا أنفاسهم بعد الضربات الإسرائيلية 1981-1982، اتجهوا لمخاصمة أمين الجميل بسبب «مفاوضاته الاستسلامية» مع الصهاينة كما قالوا، وسعوا للعودة إلى بيروت الغربية التي أخرجهم منها الإسرائيليون. ولكي لا أُطيل أكثر فقد دخل الأمليون والاشتراكيون بدعم سوري إلى المدينة، وكانت معركتهم الأولى ليست مع «عملاء» أمين الجميل بل مع «عملاء» ياسر عرفات (!) الذين كانوا يُسمَّون بالمرابطين. المهم اجتاح هؤلاء شوارع بيروت الغربية السنية لشرذمة التنظيم السني الوحيد (المسلح!) بغرب العاصمة. وخلال عمليات الملاحقة كان من حظي بالطريق الجديدة أن سمعتُ هتاف يا بكري، يا عمري، يا بتوع الأراكيل! ولم تفهم خالتي الهتاف، فقالت لي: لكننا لا نشرب الأركيلة، ولا أعرف أحداً من قادة «المرابطين» اسمه بكري! وتظاهرتُ بالضحك وقلت لها: أنت تسمينهم جَهَلة وغوغاء، لكنهم يعرفون في «التاريخ» أكثر منكِ، هم يعيروننا بأبي بكر وعمر صاحبَي النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويعيروننا بأننا لسنا مقاتلين مثلهم، فنساؤنا ورجالنا في المدن مهتمون بتدخين الأراكيل منذ الصباح المبكر، والدليل على ذلك أنّ المرابطين ومسلَّحيهم وهم عدة مئات، ما قاوموا الحملة عليهم واستسلموا وسلّموا أسلحتهم، وتبين أنّ نصفهم من شيعة أحياء بيروت الفقيرة! وبعدها بأيام، ولكثرة شكوى أهل بيروت مما نزل بالمرابطين، قال وليد جنبلاط ساخراً: لو كنتُ أعلم أنّ إبراهيم قليلات هو خالد بن الوليد أو صلاح الدين الثاني ما هاجمناه!
بعد عام 2005 واستشهاد الرئيس رفيق الحريري، وتكوُّن جبهتي 8 آذار و14 آذار، اعتبر الأكثرون منا أنّ الموضوع صار سياسياً واستراتيجياً، ولا خطر على الأمن الوطني أو العلاقات بين اللبنانيين مسلمين ومسيحيين وشيعةً وسنةً. لقد نشب الصراع الكبير عام 2006 على إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري، واستقال الوزراء الشيعة من الحكومة، وأُقفل المجلس النيابي لأنّ الآذاريين وعلى رأسهم تيار المستقبل كانوا أكثرية فيه، ثم حوصر الرئيس السنيورة في السراي من جانب قوى الثامن من آذار وبينهم الشيعة والمسيحيون العونيون (2006 - 2007). وعندما يئسوا من إمكان إسقاط حكومة الرئيس السنيورة رغم الحصار، غزوا بيروت في 7 مايو عام 2008 بحجة أن تيار المستقبل أعدّ آلاف المسلحين لمهاجمتهم، وقد قتلوا أو تسببوا في قتل سبعين إنساناً، وفتشوا ثمانمائة منزل، وما وجدوا سلاحاً يستطيعون عرضه على الإعلام. وكما آثر الآذاريون عام 2005 تشكيل الرباعي في الانتخابات لكي يُظهروا للحزب المسالمة والثقة بعد أن ظنوا أنه تيتَّم بالانسحاب العسكري السوري، فكافأهم بالحرب مع إسرائيل، والحرب عليهم، وغزو بيروت؛ فكذلك عادوا فصالحوه في الدوحة بقطر، وأعطوه حق الفيتو بحيث يكون له ولحليفه عون الثلث +1 في أي حكومة، فيستطيع دستورياً إسقاطها ساعة يشاء، وهو الأمر الذي فعله عام 2011 بإسقاط حكومة سعد الحريري، ثم التدخل في سوريا لصالح الأسد رغم توقيعه على بيان بعبدا للنأي بالنفس! وشيعة الحزب منذ حصول التسوية السياسية عام 2016، والسماح لهم باشتراع قانون انتخابات عجيب يملكون به رئاسة الجمهورية، وغالبية ساحقة في مجلس النواب، ورئيس حكومة وحكومة تابعة لهم! وفي هذا العهد الميمون أفلست الدولة، وحصل الانهيار الاقتصادي والمالي، وجاع اللبنانيون في زمن «كورونا»، فكيف بالسوريين!
لماذا هذا الاستطراد الطويل، ولماذا التعرض لأم المؤمنين وللصحابة في هجمتهم عشية 6 - 6 - 2020؟ في شتاء العام 2010 حاضرتُ في معرض الكتاب بأنطلياس، مصراً على أنّ الصراع على لبنان وسوريا والعراق هو سياسي واستراتيجي. فنبَّهني زميلي الدكتور نبيل خليفة إلى أنّ الصراع الاستراتيجي مضمونه شيعي - سني وإيراني - عربي. وهناك تربية جديدة تماماً منذ الثمانينات في صفوف الحزب وأنصار إيران في العالم العربي. الصراع أشد هولاً من الصراع العثماني - الصفوي، لأن الدول تتعارك وتتصالح، أما الإيرانيون فيريدون بتربيتهم المذهبية قسمة المجتمعات رأسياً لهدم الدول التي تقوم عليها: ألم تقرأ كتاب وضاح شرارة عن الحزب يا رضوان؟!
بعد غزوة العام 2008 ما عاد الحزب مضطراً للغزوات الشاملة، بل صار «وهج السلاح» كافياً للإخضاع، وقد حصل ذلك عشرات المرات بعد العام 2011: ساعة القمصان السود، وساعة ثوار خندق الغميق، وساعة ثوار الضاحية، وساعة ثوار بربور. وفي كل الهجمات الإرعابية والتهديدية على عرسال وصيدا والفتنة بطرابلس كانت الشعارات المذهبية والمهانات الدينية هي السائدة. وهذا فضلاً عن عشرات الخطابات العنترية ضد المملكة العربية السعودية وضد العرب التي كان يتحفنا بها زعيم الحزب للإذلال والتحدي، والتكرار أنه جنديٌّ في جيش الولي الفقيه الشجاع المجاهد، وها هي العواصم العربية الأربع قد سقطت في يده!
إنّ ما حصل يوم السبت الماضي في 6 - 6 من إغاراتٍ بالهتافات والسلاح على الناس في أنحاء بيروت وأحيائها، ليس فيه جديد غير أمرين: الإغارة على حي عين الرمانة المسيحي، وإضافة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى قائمة التعرض للصحابة. وهؤلاء الذين يهتفون: شيعة شيعة، ويتعرضون للصحابة هم من الغوغاء بالفعل، لكنهم منظمون، وهُتافاتهم مأمورٌ بها. إنما لماذا هذا الهَذر الحاقد؟ لعدة أسباب: مصير بعض المتظاهرين إلى رفع شعارات نزع سلاح الحزب، وإظهار التفوق المذهبي في لبنان وسوريا لتقوية الإحساس بالغلبة لدى العوام، وإسقاط الأمل في إمكان سقوط النظام السوري، أو التغيير في النظام العراقي، وأولاً وآخِراً: حماية الحكومة العميلة والمنع من سقوطها رغم العجز عن التصرف والعجز عن الإنجاز وسط الانهيار المتصاعد!
لا يستقيم عيشٌ إنساني أو وطني مع ميليشيا مذهبية مسلَّحة، تعتبر نفسها أقوى من الجيش ومن الأجهزة الأمنية. وقد كانوا يركّزون على استقلاليتهم وانفصالهم عن الدولة التافهة. ثم صاروا المسيطرين على الدولة كلها، إنما مشكلتهم مع المجتمع سنياً كان أو مسيحياً أو درزياً، والذي لا يستطيعون إعادة «التربية» فيه ليكون مثل ثوار بربور أو خندق الغميق!
هل يستطيع اللبنانيون الصمود وإحياء الأمل بالتغيير؟ نعم، نستطيع ذلك إذا أردنا أن نبقى بشراً ومواطنين، نصون حريتنا وكرامتنا وعيشنا. ولله الأمر من قبل ومن بعد.