نعترف أو لا نعترف إننا كتلة البشر المليارية، يسري في نسغها وفي تحركها قوة القطيع المتدافع أبداً. التأديب والترويض عبر التعليم والتثقيف، يبقى على مرّ العصور محدود التأثير فيه. المدارس والجامعات والفلاسفة الذين لم يسكتوا من أفلاطون إلى من تبعه من الإغريق وغيرهم، مكيافيلي وهيغل ونيتشه وكانط وكونت وروسو وسبينوزا وراسل وغيرهم، وفلاسفة العرب والفرس والهند. أشعلوا عقولهم، كتبوا المجلدات ونشروا الأفكار المتعددة والمتنوعة. اتفقوا واختلفوا، لكنهم صبُّوا عصارة اجتهاداتهم لرفعة هذا الكائن الجامح أبداً وهو الإنسان. العلماء الذين طوّروا الآلة من المحرك الذي خلق دنيا جديدة بالمصانع والطائرات والسلاح، حوّلت أيدي البشر إلى مخالب وأنياب مفترسة في غابة الحياة حيث يقتل الإنسان شقيقه، وذلك ما لا تفعله الضواري في الغابات.
الفلاسفة والمفكرون على كثرتهم عبر العصور لم ينجحوا في أن يزرعوا في المخالب عقلاً، وما وصلت قصائد الحب والسلام التي أبدعها الشعراء إلى الحواس الفاعلة في أجسام البشر، وأن تجعل منها منابعَ وروافدَ للتعايش والسلام. مصانع السلاح أكثر وأغلى ثمناً وأكثر إنتاجاً من المطابع والمكتبات ومصانع الأغذية والأدوية. الجنود لا يقارن عددهم بمن يعملون في الجامعات والمساجد والكنائس والمعابد والمستشفيات والمسارح ودور الأوبرا.
ما يُنفَق على السلاح في العالم من المسدس إلى القنبلة الذرية، يكفي أقل من ربعه للقضاء على الفقر والمرض والأميّة في هذا العالم الرهيب. لقد كان الإنسان وبقي هو العدو الأزلي للإنسان. لم تنجح الأديان والفلسفة والأفكار التي وُجدت منذ القدم في كفاح مستمر لترويض البشر وتكييف العقل الإنساني مع سلام الحياة والتعايش على كوكب الأرض دون عنف بين جنس الإنسان وتحقيق فرحة الوجود على كوكب الأرض. ضحايا الحروب التي شهدها التاريخ لا تقارَن أبداً بضحايا الأمراض وكل أنواع الأوبئة. الموتى الذين يقضون من السموم المختلفة سنوياً في العالم هم ضحايا ما صنعه الإنسان من مواد للتدخين والمشروبات الروحية والأغذية الفاسدة وضحايا حوادث السيارات وكذلك تسميم العالم بالتلوث البيئي. الوباء الذي حوّل المليارات من البشر إلى كائنات حبيسة كهوف الخوف والحذر، يفر بعضها من بعض وتنتظر المجهول القادم من حيث لا تعرف، هذا الوباء سواء كان من اختراع البشر أو من خلق ذاته فهو لم يكن سلاحاً جديداً للقتل والإرهاب والغلبة. ففي ميادين الصراع البشري أسلحة هائلة ومرعبة، تفوق قدرتها القاتلة ما تمتلكه أيدي القوة المسلحة الرسمية في العالم مرات ومرات. الحرب فيروس وُلد مع وجود البشر على الأرض، وسكن العقول وسخّرها لشيء واحد وهو قتل الناس بشكل جماعي تحت عنوان العدو. بطموح فردي أو جماعي للسيطرة والاستيلاء على أراضي الغير وثرواتهم وبسط النفوذ عليهم قهراً.
الجوائح من كوليرا وطاعون وحمى بأنواعها وسل وجدري وحصبة، تزور البشر من حين لآخر، تقطف حياة بعضهم دون تمييز أو تخطيط، ضرب عشواء ثم تزول ولا تستولي على أرض أو ممتلكات أو تفرض آيديولوجيا أو نظاماً سياسياً. هي تقتل لكنها لا تقهر. أمراض أخرى مثل نقص المناعة (الإيدز) التي أرعبت الناس في القرن العشرين، والسرطان، ليست من الجوائح التي تفعل فعلها بالعدوى الموجية بين الناس. مرض الإيدز ينتقل بين الناس عبر علاقة التصاق حميمي بين طرفين وبقرار واعٍ منهما، أما السرطان فهو نتيجة معركة جينية بين دنيا الجسم الواحد، تتصادم الخلايا فينتصر خبيثها ولكنها لا تطال من هو خارج الجسم الواحد، وعلاجها يتم بشكل فردي.
الجائحة التي غزت الدنيا اليوم لها قوة خاصة وتكتيك من صلب إبداعها الماكر. قد تتشابه فيه مع الأوبئة الجائحة الأخرى كالطاعون والتيفويد والكوليرا والإنفلونزا، لكنها وليدة زمننا الذي وُلدت فيه أنماط جديدة وواسعة ومعقّدة في عالم كل ما فيه ممتد وشامل. مصطلح العولمة قد يصبح قريباً قاصراً عن الوصف الدقيق لدنيا البشر اليوم.
وباء الطاعون الرهيب، كان الرحالة الذي يدخل البلدان عبر الموانئ التي كانت محطات الانتقال بين الأقطار المختلفة، يجتاح المدن القديمة، أما القوافل فكانت مسيراتها رحلات اختبار. من يسير فيها حاملاً لفيروس الوباء يموت في الفيافي قبل أن يصل إلى محطته المبتغاة. لكنّ الطاعون كان جيشاً قاتلاً لم ينجُ منه كبار الأقوام وجيوشهم وفلاسفتهم. في سنة 160م اجتاح الوباء أجزاء من العالم في عصر الإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور ماركوس أوريليوس، الذي ما زال القوس الذي يحمل اسمه منتصباً في وسط مدينة طرابلس الليبية، قتل الملايين من سكانها والتهم غالبية من أفراد الجيش وصعق الإمبراطور الفيلسوف ذاته. كانت تلك بداية ضعف الإمبراطورية. في القرن الخامس عشر هاجم الطاعون إيطاليا مرة أخرى وحصد أرواح الملايين، والمفارقة أنه في جميع الحالات قيل إنه قادم من الصين. أما في القرن السادس عشر فقد هاجم الوباء لندن وهرب منها الناس ومن بينهم الشاعر شكسبير الذي فقد إخوته وابنه، أما في القرن التاسع عشر فقد دخل وباء الكوليرا إلى مدينة برلين وهرب منها الناس إلى الأرياف والفيلسوف هيغل الذي لم يغادر قضى نحبه.
وباء القرن الحادي والعشرين (كورونا)، هو وباء الزمن الجديد. امتلك قوة الانتشار، كائن يمشى ويسبح ويطير. شنَّ هجوماً شاملاً على الكرة الأرضية. استهدف الكيانات العملاقة اقتصادياً والمدججة بالسلاح وقوة السياسة والعلم والمال. اخترق أجسام كبارها من حكام وأثرياء. أما أهل البلدان النامية والفقيرة فقد كان أقل قسوة عليهم وتمدده فيها محدود، هو المهاجم الشبح الغامض. حوّل الدنيا إلى سجن كبّل فيه الكبار والصغار. إنه الوباء الذي نصّب نفسه طاغية مرعبة يحتل الأجسام ويقود من يموت منها منفرداً إلى قبره أو إلى محارق غير مقدسة. هذا العدو الماكر سيجعل العقل الإنساني يطرح أسئلة ساخنة على نفسه، أولها مراجعة من هو العدو الأخطر الذي يهدد كل البشر؟ لا يعترف بحدود أو هويات أو أعراق. هل سيشهد العالم أحلافاً من نوع جديد تتجاوز التكتلات العسكرية والسياسية ويصار إلى تحالف إنساني علمي يواجه عدواً لا هوية له إلا القتل أو غرس دائه في صدور البشر؟