«انعقدت الهيئة بكامل هيئتها المقدسة في قاعة العدل بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية وسقفها المذهب تسبح في سمائه أحلام البشر. أوزوريس في الصدر على عرشه الذهبي، إلى يمينه إيزيس على عرشها، وإلى يساره حورس على عرشه، وعلى مبعدة يسيرة من قدميه تربع تحوت كاتب الآلهة مسنداً إلى ساقيه المشتبكتين الكتاب الجامع، وعلى جانبي القاعة صُفّت الكراسي المكسوة بقشرة من الذهب الخالص تنتظر من سيكتب لهم الخلاص من القادمين. وقال أوزوريس: قضي على البشر منذ قديم بأن تمضي حياتهم على الأرض معهم عند عبور عتبة الموت، كالظل تتبعهم حاملة الأفعال والنوايا، وتتجسد فوق أكفانهم العارية، وعقب حوار طويل اتفقت الكلمة على أن هذه الساعة هي الساعة الفاصلة، وها هي المحكمة تنعقد من أجل سياحة طويلة في الزمن. وأومأ أوزوريس إلى حورس فصاح الشاب بصوت جهوري: الملك مينا...».
هكذا بدأت رواية نجيب محفوظ «أمام العرش» التي أطلقها في عام 1983، وجاء فيها أن حكام مصر من الملك مينا حتى الرئيس أنور السادات مَثلوا أمام المحكمة التاريخية لكي يقولوا بما فعلوا. الرواية طويلة عمداً؛ لأنها تستعرض آلاف السنين من العلاقة بين الحاكم والرعية، وعلاقة مصر بجيرانها، والدين الذي بات فيها أساساً للحكمة والضمير. خمسة آلاف عام من التاريخ المصري جرت فيها المساءلة للحكام، وسادت فيها الديانة «الأوزورية» لثلاثة آلاف عام، والمسيحية لبضعة قرون بعدها حتى الفتح العربي والإسلامي الذي صار دين الأغلبية. ما كان يهم المحكمة ليس دين الحاكم، وإنما أن يكون مصرياً وُلد في مصر، وعاش فيها، ومات فيها، وعمل دوماً على حماية شعبها ورعاية مصالحه بإخلاص وشجاعة. وكان لدى الديانة المصرية القديمة من رحابة الصدر لكي تقبل التنوع بين أديان قبلت بالوحدانية وقامت على سلامة الضمير. وبينما كان الحكم خلال الأسرات المصرية الفرعونية الثلاث، القديمة والوسطى والحديث، يعود إلى القديم، فإن المحكمة ما أن جاء «مقوقس» مصر حتى أصبح ما تنتجه من قرارات توصية لمحكمة متخيلة من الدين التالي. الأحكام في المحكمة ثلاثة: أن يكون الحاكم من الخالدين، ومن ثم ينضم إلى هيئة المحكمة؛ أو أن يكون من المذنبين الذين مصيرهم جهنم وبئس المصير، أو يذهب إلى الباب المفضي إلى مقام «التافهين». كثير من الحكام وضعوا في مرتبة الخالدين، سواء كان ذلك نتيجة عروضهم لأمجادهم وخدمتهم للدولة والشعب، أو أن ذلك كان نتيجة تدخل «إيزيس» لكي تقدم شهادة عن واحد من أبنائها فيها الكثير من التعاطف مع محنة الحاكم وهو يحاول تحقيق ما يبتغي؛ لكنها لم ترحم الذين تمردوا عليها وخانوها فكان مأواهم الجحيم وبئس المصير. ختمت إيزيس محاكمة الرئيس أنور السادات الذي كان في مرتبة الخالدين، وقالت: «ليضرع كل منكم إلى إلهه أن يهب مصر الحكمة والقوة لتبقى على الزمان منارة للهدى والجمال، فبسط الجميع أكفهم واستغرقوا في الدعاء».
الرواية من أولها لآخرها «محفوظية» عليها خاتم صاحب نوبل في الحكي والقصص، لكن الأدب فيها ليس موضوعنا، لكنه السياسة في موضوع قلبه السياسيون في الحكم. وموضوعه الدولة المصرية القديمة والحديثة سواء، وهي في لحظة المحاكمة الأخيرة لأنور السادات تسمح لكل قادة مصر أن يدخلوا في المحاكمة، من كان منهم حاملاً للقوة، أو صاحباً للعدالة، أو مدافعاً عن الضمير. كان طبيعياً أن يكون مينا وتحتمس ورمسيس الثاني حاضرين، وسعد زغلول ومصطفي النحاس مشاركين، وجمال عبد الناصر مدافعاً عن نفسه بين الخالدين، ومتحفظاً ومهاجماً لما كان عليه أن يأتي بعده. لم تكن هذه هي الرواية الوحيدة التي أقام فيها المقارنات بين حكام مصر، وكانت روايات مثل «قشتمر» على لسان الجالسين على القهوة، أو «العائش في الحقيقة»، تحكي علاقات السلطة مع المحكومين، وليس كما كان الحال في «أولاد حارتنا» أو «الحرافيش» حيث السلطة لقوة غيبية أو حاضرة.
وقفت القصة عند أنور السادات، ولم تصل بنا إلى «محمد حسني مبارك»، الذي كان في الحكم لبضعة أشهر عندما صدرت الرواية، وخرج من السلطة بعد ثلاثة عقود في 2011. ثلاثون عاماً وضعته في مصاف رمسيس الثاني ومحمد علي باشا، من حيث مدة الحكم الطويلة؛ لكنه ربما بين الكثيرين من حكام مصر كان هو الذي تعرّض لمحاكمات حقيقية لتسع سنوات بعد خروجه من السلطة. الرجل كان له أكثر من وجه مشرف، أولها أن العسكرية فيه كانت تمثل أنقى أنماط الجندي المصري بما فيه من جلد وقدرة وحب للوطن وفداء. كان صاحب التجارب الطويلة طياراً في حروب 1956 و1967 و1968 - 1970، وأخيراً قائداً للقوات الجوية في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التي اختاره السادات بعدها من بين كل القادة العسكريين لكي يكون نائباً له، حيث جرى التدريب على الدبلوماسية والسياسة والحكمة. ورغم أنه مضى في طريق تطبيق اتفاقية السلام مع إسرائيل إلى آخره، فلم يعطِ الإسرائيليين فرصة للمراوغة أو المناورة، كان التزاماً بالجدول الزمني، وعندما باتت «طابا» موضوعاً للتحكيم لم يتردد في خوض معركة دقيقة وحرجة انتصر فيها في النهاية. لم يبق سنتمتر واحد من الأراضي المصرية تحت الاحتلال، وبقي الحال كذلك حتى الآن. لكن مبارك لم يكن هو الرجل الذي يرفع الحرب من دائرة اختياراته السياسية فكان قراره الشجاع بالمشاركة في حرب تحرير الكويت التي عكست الحالة الجديدة للعلاقات المصرية مع دول الخليج، التي فضلاً عن المشاركة في الحرب، فإنها باتت من القوة بحيث كان ممكناً الوساطة الدبلوماسية عندما ثارت ما سميت بأزمة «الخفوس» بين المملكة العربية السعودية وقطر. كانت الاستراتيجية تقتضي علاقات مصرية - خليجية قوية لكي تتعامل مع الواقعين الإقليمي والدولي.
الآن ومبارك «أمام العرش» فإنه ثانياً سوف يكون لديه الكثير الذي يقوله عن إعادة بناء البنية الأساسية التي بدأ فيها بعد أن قاربت الانهيار الكامل خلال العقدين السابقين منذ توقفت كل الأمور في مصر بعد يونيو (حزيران) 1967. والأرجح أنه سوف يشرح سياساته الاقتصادية التي بعد تردد طويل استقرت على ضرورة الإصلاح الاقتصادي، ونقل المركز المصري من نهر النيل «الخالد» لكي يأخذ طريقه إلى الصحراء الواسعة والبحرين الأحمر والأبيض. كان للرجل ثالثاً أخطاؤه، ولا شك فقد تردد كثيراً في الإصلاح، وعندما عزم عليه لم يقفز لمسافات طويلة، وخلق فراغات كثيرة في الاقتصاد استغلتها شركات توظيف الأموال، ومعها عادت جماعة الإخوان المسلمين إلى الساحة السياسية تحت عباءة حزب الوفد تارة، وحزب العمل تارة أخرى. وبمثل هذه الخلطة كان الإرهاب ممكناً، لكنه كسب وانتصر في جولة التسعينات وبات ممكناً أن تبدأ مصر مسيرة إصلاح جادة. جاءت الثورة على أي حال وسوف تبقى قضيته أمام المؤرخين، لكن الرجل فعل ما قاله حرفياً، أن الأشخاص زائلون والأوطان باقية، وأنه على أرض مصر عاش وفيها سوف يموت. رحم الله مبارك فقد كان باراً بوطنه وأمته.