منذ مؤتمر المثقفين العرب الكبار بالكويت عام 1974 عن التأزم الحضاري العربي، جرى اعتبار الموروث الديني والثقافي - الاجتماعي عقبة كأْداء أمام التقدم والحداثة والعصر؛ بل وأمام الديمقراطية والانفتاح السياسي. وظهرت عند العرب مقاربتان متمايزتان لذلك الموروث؛ مقاربة الشيوعيين التقليديين التي كانت ترى أن هناك جانبين للموروث: الجانب الإيجابي الذي تجلَّى في فلاسفة الإسلام وبخاصة الفارابي وابن رشد، والقرامطة، والمعتزلة وبخاصة الجاحظ. والجانب السلبي الذي يظهر في الذهنية الشعبية، ولدى أمثال الشافعي والغزالي وأهل السُنة بشكل عام. أما المقاربة الأخرى التي قادها محمد عابد الجابري ومحمد أركون، وانضم إليها معظم المثقفين العرب، وهي تقول إنها عصرانية، فإنها تقطع أبستمولوجياً (تقليداً لباشلار وفوكو) مع كل الموروث، وتشتغل على تفكيكه من أجل تحرير الذهنيات والواقع منه. والمقاربة الثانية هذه رغم مدخلها العصراني المشكوك فيه (لأن هذا الفهم لباشلار وفوكو سطحي)؛ فالواقع أنها استندت إلى الأطروحة الغربية الكبرى منذ القرن الثامن عشر بشأن العصور الوسطى الظلامية الأوروبية (بسبب المسيحية الكاثوليكية والإقطاع). وقد أُلحقت بها أو ماثلتْها عندهم منذ عصر الأنوار كل الحضارات الوسيطة غير الغربية.
وطوال القرن التاسع عشر وما بعده اختار لنا المستشرقون وعلماء الحضارات ما اختاروه لأنفسهم: الخروج من انحطاط الألف عام، من طريق الخروج من المواريث الدينية والثقافية والشعبية، وإقامة الدول الحديثة على نمط الناجح عندهم. وإن كان لا بد من فعل شيء من أجل الهوية، فلتكن على طريقة الأوروبيين أيضاً الذين اختاروا المواريث الإغريقية والرومانية. ولذلك، ولكيلا يظن نهضويونا أن المقصود العودة للسلف الديني، فقد اختاروا لنا القرن الرابع الهجري - العاشر والحادي عشر الميلادي، باعتباره قرناً سادت فيه مواريث وترجمات اليونان، إضافة إلى التجربة الأندلسية باعتبارها تجربة حياة مزدهرة بين المسلمين والمسيحيين واليهود. وقد ظهر ذلك جلياً في تشبث محمد أركون بالقرن الرابع، وتشبث الجابري بالعقلانية الأرسطية، فإلى الثقافة البرهانية عند ابن رشد، والأندلسيين، ووصولاً إلى النهوض المغربي الحديث.
إنما عندما كان مثقفونا الحداثيون، وبعض الإسلاميين التحديثيين، يسيرون في أُطروحة الانحطاط، ويفكرون في كيفيات الخروج، كانت مدرسة الحوليات «Annales» (اسم مجلة تاريخية) الفرنسية تحفر وتعيد النظر في العصور الوسطى الأوروبية، أو عصور الانحطاط في نظر أهل التنوير. وبعد مئات الكتب والوثائق والدراسات المنشورة، انتهى هؤلاء في الستينات والسبعينات من القرن الماضي إلى أن العصور الوسطى الأوروبية ما كانت عصور ظلام، وأن القطيعة معها كانت قطيعة في الوعي وليس في الواقع، وأنه عليها وعلى منتجاتها تأسست الأنوار وأوروبا الحديثة. فالأزمنة بين الحضارات والثقافات ليست أزمنة انفصال أو قطيعة؛ بل هي أزمنة اتصال وتلاقح وإفادة وتواصل.
إن الذي سرى لدى المؤرخين ودارسي الدين الأوروبيين على أوروبا أخيراً، بدأ يسري لدى فريق منهم على حضارة الإسلام. فليست هناك عصور للانحطاط في الإسلام، بدليل التقدم عند المسلمين في الرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء والهندسة والميكانيكا والطب، وحتى زمن متأخر (حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر). ومن تاريخ العلوم صاروا إلى التاريخين الثقافي والديني. فاستعادت فكرة التواصل والتلاقح الحضاري أهميتها. وبذلك ردَّ مستشرقون ومؤرخون للعلوم على المراجعين الجدد الذين يريدون تخيل قطيعة حتى بين زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن ظهور القرآن والإسلام التاريخي! وقال هؤلاء (وهم كثيرون أهمُّهم توماس باور صاحب كتاب: «لماذا لم تكن في الإسلام عصور وسطى؟») إن المواريث الكلاسيكية العمرانية والعلمية والدينية والثقافية والزراعية، استمرت في الحضارة الإسلامية التي خالطت وبعمق بدورها الحضارات الأوروبية والصينية والهندية. الحضارة الإسلامية (بما في ذلك تفكيرها الديني) هي شبكة ضخمة متنوعة النتاج ومتعددة المدارس ومؤتلفة العناصر، يسودها روحٌ عميقٌ واحد مثل سائر الحضارات. وما تضاءلت فعالياتها ونتاجاتها إلا بعد القرن الثامن عشر تحت وطأة الزحف الغربي.
وبالطبع، فإن الفصاميين وأهل القطيعة العرب قد عرفوا هذه المتغيرات العلمية؛ لكنهم لم يعوها بالتأكيد، أو لم يعوا نتائجها في الحاضر، لا هُم، ولا أنصار التقليد؛ وإلا فليتذكر الدكتور جابر عصفور أن المجلس الأعلى للثقافة بمصر، قد ترجم عندما كان الدكتور جابر رئيساً له كتاب بيتر غران: «الأصول الإسلامية للرأسمالية»، الذي يحمل الفكرة الجديدة بشأن العلاقة بين الاستعمار والانحطاط.
ماذا تفعل الرؤية الجديدة للموروث؟ أو ماذا ينبغي أن تفعل في الوعي والتفكير والكتابة؟ عندما تواجه الأمم والثقافات التاريخية تحديات هائلة، مثل التي واجهها العرب والمسلمون في القرن التاسع عشر، تتنوع ردود فعلها: يكون هناك الذين يتشبثون بكل المَعيش في الدين والثقافة. ويكون هناك من يتنكرون لكل الموجود الحاضر في الدين والثقافة، باعتباره فاشلاً. ويظهر فريق ثالث يسلك طريقاً بين بين. وفي العادة يكون هذا الفريق قريباً من إدارة الشأن العام، والمشكلات الواقعية التي تعرض له. ويظهر أيضاً فريق رابع شديد الراديكالية، يبغي الانتقام من مصدر أو مصادر التهديد والتحدي، وفي العادة يضر هذا الفريق وهو يحاول الثأر لما نزل بالدين، بنفسه وبني قومه أكثر مما يضر بأعدائه المعلنين. وهذا ما فعلته الحركة الفرائضية بالهند، عندما أعلنت أنها لم تعد دار إسلام، وطلبت من المسلمين «الهجرة» من الهند. وهذا ما فعلته الحركة المهدية بالسودان. وهذا ما فعلته «القاعدة» و«داعش» من بعد. وهذا ما فعلته بطرائق أُخرى حركات الإسلام السياسي، ولا تزال تفعله حتى الآن. إن تغيرات الرؤية للتراث والموروث لا تعني العودة إليه أو إحياءه؛ بل تعني تحوله إلى تاريخ ثقافي، للقراءة والمراجعة والفهم في الزمان والمكان، ومن دون لعنٍ أو تقديس. والثقافة تشمل التفكير الديني، ونتاجاته الكلامية والفقهية والتفسيرية والحديثية والشعائرية والرمزية. ونحن بحاجة لمنظوماتٍ جديدة في كل الشؤون الثقافية، ومنها الثقافة الدينية. وبالطبع عندما نتأمل الأشعرية الشديدة الغنى، فسنجد أنها لا تزال تمثل احتياجاتنا الروحية العصرية في الثقة بالله - عز وجل - ورحمته وفضله، وقربنا مؤمنين وبشراً منه. كما تمثّل ثقة بعضنا ببعض، فلا نَكفُر ولا نُكَفّر، ولا يقتل بعضُنا بعضاً، ولا نقتل الآخرين. وتمثّل إنسانيتنا في عمل أصولييها الكبار على مقاصد الشريعة وفلسفة التعارف القرآنية، ومصالح الإنسان ووحدة الإنسانية؛ لكنها - بالطبع أيضاً - ما عادت واردة في مسائل خلق الله لأفعال العباد (لوجوب اقتران المسؤولية بالحرية)، ولا في التحسين والتقبيح الشرعيين. هل هذه انتقائية أو تلفيق أو تخيُّر بلغة الفقهاء؟ لا هذا ولا ذاك؛ بل هذا الأمر بالنسبة لي ناجم عن الفهم الجديد لروح الإسلام، وللتراث والموروث الذي نفهمه ونعترف به ونتجاوزه، إلا ما بقي فينا استناداً إلى العقول والمصالح والمشاعر والشعائرية والرمزيات. وأنا قارئٌ وباحثٌ قديم في النص التراثي، وسأبقى كذلك. سأبقى محباً للغزالي والأشعري وابن تيمية وابن عربي والطبري والمتنبي على اختلاف ما بينهم، وإلا فكيف أكون عربياً مسلماً؟
لقد مررنا نحن العرب والمسلمين خلال العقود الماضية بتجربة شديدة الهول في الدين والدنيا والدولة، ومع العالم. وكما نحن محتاجون إلى تجديد تجربة الدولة الوطنية وإصلاحها، فنحن بحاجة إلى سردية جديدة في الدين وللدين!