في مؤتمرٍ كبيرٍ أقامه الأزهر للتجديد، احتدم نقاشٌ بين الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، وكان أحد المحاضرين، والحاضرين وفي طليعتهم شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب - حول التراث والأشعرية.
ومنذ الستينات من القرن العشرين، وإلى ما قبل العقد أو العقدين، حين انشغلنا بالتطرف والإرهاب، كان الموقف من التراث والموروث (المعنوي والرمزي والفكري والمادي والعقدي) هما رئيسياً لدى المثقفين العرب الكبار والأوساط، الذين كتبوا عشرات المشروعات اعتبروا فيها التراث بعامة عقبة كأداء في سبيل التحديث والعصرنة، وضرورة التحرر منه أو تحريره من المسلمين المتخلفين (بحسب محمد أركون).
وما كان للمثقفين هؤلاء خصوم كبار مناقشون أو معارضون من علماء الدين أو من المثقفين المحافظين أنفسهم. أما مثقفو الإسلاميين فكانوا منشغلين بنقض العلمانية، ومعارضة الدولة الوطنية. وقد كانت تلك الحدة تجاه التراث تُذهلني عندما بدأتُ أعي وأخرج من سلطان مشروعات الكبار ونفوذهم في مطلع الثمانينات، لأنه قبل الثمانينات من القرن الماضي، ما كان للموروث الديني والثقافي نفوذٌ أو نفاذٌ في أي مكان، وكان الصراع الحاضر على المشكلات السياسية والاقتصادية الداخلية، وقضايا الصراع العربي - الإسرائيلي، والعلاقات الدولية.
وعلى أي حال؛ فإنّ «أشكلة» التراث ونقده أو نقضه صار موضة لدى راديكاليي المثقفين، كما صار لعن العلمانية عقيدة لدى الإسلاميين. والدكتور محمد عثمان الخشت، وهو أستاذ فلسفة وإسلاميات، داخلٌ في أطروحة تجاوُز الموروث بداعي الإصلاح الديني أو التجديد والنهوض. ولديه كتبٌ كثيرة متداولة تتعامل مع هذا الأمر بعمومية غير محمودة أحياناً؛ لكنّ الرجل غير عقائدي أو عنيف، وعندما يُواجَهُ - وقد سمعتُه عدة مرات - فهو مستعدٌّ للقول (كما قال بالأزهر) إنهم أساءوا فهمه، وهو صديقٌ للدين ولشيخ الأزهر، وهو مستعد للنقاش والمراجعة إذا اقتنع! إنّ المفيد وقد تغير الزمان، وتغيرت الإشكالية، أن نشير إلى أنه عندما كان الموقف من الموروث حاسماً لدى مثقفينا، كان كذلك حاسماً لدى أساتذة واستراتيجيي الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في الغربين الأوروبي والأميركي. ولأنّ هؤلاء وأولئك ما كانوا بحاجة إلى المجاملة والتقية شأن يساريينا، فقد ذهب عشراتٌ بل صاروا مئاتٍ في الثمانينات والتسعينات، إلى أنَّ محمداً قد لا يكون موجوداً في التاريخ، وأنّ الإمبراطورية العربية كتبت القرآن في القرن الثالث الهجري، والتاريخ الأول والنصوص التي يقال إنها قديمة؛ فإنّ المسلمين الأرثوذكس (أهل السنة) هم الذين أنتجوها لاحقاً (!)، وهكذا تجاوز تلامذة برنارد لويس ما ذهب إليه هو نفسه من أنّ الإسلام ما صار موتوراً إلا بعد الفشل في العالم الواقعي للحداثة، وأّنّ الحلّ لشبانه وللعالم معه ما صار إليه مصطفى كمال أتاتورك في تركيا الحديثة من فصلٍ للدولة عن الدين، واصطناعٍ لعلمانية حادّة بعض الشيء، لكنها أخرجت تركيا من مأزقها التاريخي الذي تمثّل في الغرق تحت وطأة وأعباء المسؤولية عن هذا الدين في زمن انحطاطه!
ما كان الموروث متحكماً في عقول العرب والمسلمين، لكنّ المفكرين العرب رأوه كذلك وطالبوا بالتحرر منه، بل وبالقطيعة معه على طرائق باشلار وفوكو. وفي الواقع كان ذلك صراعاً بين فئات المثقفين على السلطة في المجتمع والدولة. ثم صار «حرفة» وغراماً ومجداً عندما انتقل الأمر إلى التاريخ الثقافي للأمة، وأنه انحطاطٌ جاوز الألف عام، وبذلك فالذي ورثناه أو نعيش فيه هو دين زمن الانحطاط، بأعرافه وتقاليده وتواكليته وشعبوياته. ولذلك انصرف قسمٌ كبيرٌ من المثقفين إلى تفكيك التراث الثقافي القديم، وليس من أجل كتابة تاريخ ثقافي، بل لاعتقادهم أنهم بذلك يفككون البنى الذهنية العتيقة المخلَّدة في إدراكاتنا وتصوراتنا ورؤيتنا للدين وللعالم! لقد كان المطلوب الفهم والاستيعاب والتجاوُز (اعتباره كما هو بالفعل تاريخاً، وهو تاريخٌ عظيمٌ لكنه مضى)، أما الذي حدث فهو الأدلجة الشرسة لكل الموروث، والانصراف إلى تقطيعه، وإثبات ضرره ولا معقوليته.
ولنمض إلى التجديد الديني والإصلاح الديني والأشعرية. لدينا تجديدٌ فقهي (فروعي) هائل طوال مائة عامٍ وأكثر. ونحن بحاجة إلى عملٍ مستمرٍ في الاجتهاد الفقهي لحلّ المشكلات اليومية للناس، كما ظهر في مؤتمر الأزهر الأخير. إنما في الوقت الذي كان فيه الإصلاحيون منهمكين في التجديد الفقهي الشاسع، كانوا ينهالون على الأشعرية بالقذف والتنديد والإدانة. وقد ورثوا ذلك عن المستشرقين أيضاً. ومع الوقت صار ذلك عَلَماً على أهل السنة، أنهم محافظون رجعيون (الأشاعرة) أو متشددون (السلفيون).
ومع اطّراد الاجتهاد الفقهي صار هناك للإسلام السني والشيعي جسدٌ ضخمٌ، لكنّ رأسه صغير، بمعنى أنه ما ظهر علم كلامٍ جديد، وكان ضرورياً أن يظهر. ونحن (واليهود) لا نحب أن نسمي كلامنا في الدين واعتقاداته لاهوتاً، لكنه كذلك. فاللاهوت ليس رؤية وحسب، بل هو منهج يعتبر نفسه عقلانياً أو هو فهمٌ وتدبُّرٌ وفلسفة للدين. ولذلك كما كان هناك فقهٌ قديمٌ وفقهٌ جديد، وفي مسائل كثيرة، فكذلك ينبغي أن يكون هناك علم كلام جديد، كما أنّ ثلثي موضوعات علم الكلام الكلاسيكي ما عادت واردة حتى في أذهان المسلمين. وبسبب التغير الهائل في حياة المسلمين في العالم، كتب الهندي شبلي النعماني، معاصر سيد أحمد خان (أواخر القرن التاسع عشر)، كتاباً سماه: علم الكلام الجديد (ترجمه المركز القومي للترجمة بمصر عام 2005 فيما أظن). بل إنّ رسالة التوحيد للإمام محمد عبده نصفها موضوعات جديدة. وكما لم يجب أحدٌ إجابات محترمة على أطروحات أعداء التراث العرب والأجانب، كذلك ما أجاب أحدٌ منهم إجابات شافية ولا غير شافية على اتهامات المثقفين والمستشرقين للأشعرية. بل إنّ مدرسة الشيخ مصطفى عبد الرازق بالجامعة المصرية، وقد صار شيخاً للأزهر كما هو معروف (1945 - 1947)، ما أخرجت منتصراً للأشعرية في تاريخ الفكر ولا في الحاضر، غير علي سامي النشار، أما الآخرون فقد أُغرموا بالفلاسفة وبخاصة ابن رشد، أو بالمعتزلة، أو بالصوفية. وقد عمل المغاربة وحسب في العقدين الأخيرين في نشر نصوص ودراسات عن الأشعرية، أما في أقسام الدراسات الإسلامية بأوروبا وأميركا فهناك ازدهارٌ هائلٌ في نشر النصوص والدراسات عن الأشاعرة الكبار، وعن الحنابلة.
هذا كله تاريخٌ، لكنه أيضاً حاضر إذا فهمنا كلامنا أو لاهوتنا كما يفهم الآخرون لاهوتهم اليوم. غادامر وبول ريكور تحدّثا عن «المساحة التأويلية» وتشارلز تايلور تحدّث عن التداخل والتركيب أو إعادة التركيب. وقد قام علماؤنا الكبار بهذين الأمرين في العقد الأخير تحت وطأة مكافحة التطرف دون أن يشعروا. فكتاب المدينة صار عَلَماً على الدولة المدنية الدستورية. وحديث السفينة صار علماً على المسؤولية المشتركة. وحلف الفضول صار عَلَماً على عهد عالمي جديدٍ لمكارم الأخلاق. ولو رُحْنا نذكر التفاسير الجديدة لآياتٍ في القرآن، والتي تعتمد التأويل لضاق المجال. فما أقصده أن التغيير اللاهوتي حصل. وبخاصة أنّ بياناتنا وإعلاناتنا ومواثيقنا المشتركة أو المنفردة تتبنى كل جدول الأعمال العالمي. ولذلك لا بد من خطوة واعية وجبارة إلى الأمام، من أجل القول بلاهوتٍ جديدٍ ولدى الأشعرية والماتريدية والسلفية والشيعة. نعم، لقد تغيرت رؤية العالم لدينا وينبغي الاعتراف بذلك، وإلاّ وقعنا في الرمزيات التي يستخدم مناهجها وطرائقها العتيقة المتطرفون والإرهابيون، وكلها انتقائية وعشوائية وبنت ساعتها أحياناً، وصيّرت الإسلام مشكلة عالمية!
لا يريد الدكتور الخشت أن يسمى أشعرياً (وربما لا يريد كذلك أن يسمى سنياً)، وهذا حقه، ويظل مؤمناً ومسلماً (بحسب الأشعرية!). لكنني لا أدري إذا كان أي منا نحن أهل السنة ما يزال يستطيع تسمية نفسه أشعرياً أو سلفياً، أو معتزلياً أو ماتريدياً، لقد تغيرت البلاد ومن عليها!