يبدو أن انتهاء الحرب الباردة داخل البلاط الملكي البريطاني بين الملكة إليزابيث، من ناحية، وحفيدها هاري وزوجته ميغان، من ناحية أخرى، كان البشارة الأولى التي جعلت الحروب الباردة الأخرى في العالم تتجه نحو الأفول. المعضلة في تعبير «الحرب الباردة» أنه مشحون بكل دلالات التوتر في الحروب، ولكنه يخلو من نتائجها التاريخية؛ ومنذ الحرب العالمية الثانية، وما جرى بعدها من حروب لا تطلق فيها رصاصة، وهذا نموذج لنوعية من العلاقات التي تشهر فيها الكثير من الأسلحة، أو الادعاء بإشهارها، ولكن السوفيات والأميركيين كانوا يعرفون الحدود التي يقف عندها الجميع. وعندما أعلن الأمير وزوجته نيتهما التخلي عن بعض من واجباتهما الملكية، كانا يعلنان حرباً على التقاليد البالية للتاج، التي من وجهة نظر الزوجين عن رفضهما التعرض لما تعرضت له الأميرة ديانا من قبل، وأكثر من ذلك حملا طفلهما الرضيع «آرشي» إلى كندا. كان في ذلك نوع من التصعيد المحسوب الذي لم تتجاوب معها الملكة بتصعيد مقبول، وإنما باجتماع مع حفيدها لم يعلم أحد بما جرى فيه، ولكن الجميع بعد ذلك خرجوا بصيغة يمكن للجميع التعايش معها. لم يكن البريطاني على استعداد لاستعادة أزمة الملك الذي تزوج المطلقة الأميركية في الثلاثينات، ولا كان أحد يريد تذكر أزمة الأميرة مارغريت وزوجها المصور في الستينات من القرن الماضي، ولا كان ممكناً أن تظل أزمة «أميرة القلوب» مستحكمة حتى اليوم. حل الأزمة، وما بدا كما لو كان حرباً باردة تهدد الوضع القائم للملكية البريطانية، بينما الملكة لم تعد قادرة على حمل التاج البريطاني على رأسها، كان لا بد أن يصل بسرعة إلى نهايته السعيدة. لم يعد بين الأطراف الدولية من يطيق عقوداً من الحرب الباردة، كتلك التي جرت بين موسكو وواشنطن على مدى أربعة عقود تخللتها أزمات كثيرة. هذه المرة عندما قامت الحرب الباردة التجارية بين واشنطن وبكين، فإنها لم تكمل أربع سنوات؛ ولا عجب إذا كانت تلك التي بين الملكة وحفيدها استغرقت أربعة أسابيع.
شيء مثل هذا جرى في الشرق الأوسط، فقد انتهت عاصفة الأزمة الأميركية الإيرانية بعد أن توافقت واشنطن مع طهران على ألا يكون هناك مجال آخر لضربات متبادلة. وبشكل متزامن، تقريباً، توقفت المواجهة العسكرية بين قوات الجيش الوطني الليبي وميليشيات حكومة «الوفاق الوطني» في طرابلس. حالة الأزمتين من الاحتقان تراجعت، وبات على كل أطرافها أن يعيد حساباته مرة أخرى، والتنفس بعيداً عن ضغوط المعركة المرتقبة أو المفاوضات المتوقعة. وواشنطن كانت تستعد للاحتفال بتوقيع المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري مع الصين، فقد انتهت الحرب الباردة مبكراً. أكثر من ذلك، ففي يوم توقيع الاتفاق، جرى الإعلان عن توصل أطراف المفاوضات الخاصة بسد النهضة الإثيوبي إلى اتفاق في واشنطن حول الأمور الجوهرية، وبقيت صياغة الاتفاق الذي سيعلن عنه في 28 يناير (كانون الثاني) الحالي. ومع نهاية الأسبوع الثاني من العام الجديد 2020 تنفس العالم الصعداء، وابتعدت الأزمات الحادة في العلاقات الدولية عن حافة الهاوية، فلا كانت حرب باردة ولا ساخنة، وأصبحت الدنيا أفضل مما كانت عليه قبل بداية العام، وعاد البلاط الملكي الإنجليزي إلى أيامه الطيبة الأولى، التي يتلاءم فيها الجميع مع ما يتطلب العصر الذي يعيشون فيه.
ومن بين هذه الأحداث، كان أكثرها تعقيداً الاتفاق الصيني الأميركي، الذي ظفر كثيراً بتعبير الحرب الباردة؛ وأحياناً باسم «الحرب التجارية» التي أخذت شكلاً كان فيه الكثير من رعب السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية، حينما تسابقت دول العالم على استخدام الضرائب والرسوم الجمركية، وقيل إنها كانت سبباً من أسباب نشوب الحرب. وبعدها فإن النظام الدولي الذي قام كان حريصاً، ليس فقط على إنشاء الأمم المتحدة، وإنما ألحق بها مؤسسات تحافظ على الصحة الاقتصادية للدول، فلا تكون عدوانية على بعضها البعض. وعندما تم إنشاء «منظمة التجارة العالمية» حرصت الولايات المتحدة على أن تلحق بها كل دول العالم، خصوصاً الصين وروسيا، على أساس أن اللحاق يعني الوجود في السوق العالمية، التي تقيم اعتماداً متبادلاً يبعد الدول عن شر الحرب ولعنة القتال. المدهش أن حدوث ذلك لم يمنع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، من صبِّ اللعنات على الاعتماد المتبادل ومنظمة التجارة العالمية، التي لم ير فيهما أن المشكلة تكمن في القدرات التنافسية الأميركية مع الصين، وإنما لأن الصين تحصل على مميزات خاصة بالدول النامية، وتتلاعب بأسعار عملتها، لكي تستولي على الأسواق العالمية، وتجذب الشركات الدولية إلى أحضانها. وهكذا أصبحت الحرب التجارية قائمة، ومعها حرب سياسية باردة من الاتهامات والاتهامات المضادة، وترجم التوتر إلى سلسلة من فرض الضرائب والرسوم الجمركية بشكل متبادل وسريع بين واشنطن وبكين. وعندما يحدث ذلك بين أكبر سوقين عالميتين، وفي التجارة المتبادلة بينهما، فإن لذلك آثاراً سلبية على التجارة العالمية، ومعدل النمو في الاقتصاد العالمي. وعندما خلع العملاقان الاقتصاديان معاطفهما، أصيبت كل دول العالم، بدرجة أو بأخرى، بالزكام!
لا أحد يعرف ما الذي حدث في الحرب التجارية، ولا الاستعدادات التي جرى التنبؤ بها بالتحول إلى حرب باردة، اللهم إلا أن الاعتماد المتبادل بين الاقتصادين كان إلى الدرجة التي ولدت في الوقت المناسب، ما يكفي من المضادات الحيوية التي أولاً قسمت قضايا الخلاف الاقتصادية إلى مراحل يكون فيها التعامل مع ما هو واضح وصريح؛ ومن ثم يكون ممكناً ثانياً تعويض المتضرر؛ وثالثاً إرجاء كل ما هو صعب ومعقد، وغير ناضج، إلى مرحلة تالية. وهكذا فإن اتفاق المرحلة الأولى الذي جرى التوقيع عليه في 15 يناير الحالي، تضمن أن تقوم الصين بشراء ما قيمته 200 مليار دولار من السلع الأميركية، من بينها 50 ملياراً من المنتجات الزراعية. ترمب كان يريد ضرب عصفورين بحجر واحد: أن يقلص العجز الأميركي التجاري مع الصين؛ وأن يغازل المزارعين الأميركيين برشوة كبيرة، قبل شهور قليلة من الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة. لم يكن ترمب ليترك أمراً للصدفة، حتى ولو كانت كل المؤشرات، والعلامات في السماء، تقول إنه سوف يفوز بفترة رئاسية ثانية، وحتى لو كان الجمهوريون هم الأغلبية في مجلس الشيوخ، وسوف يقررون مصير محاكمته لصالحه.
صحيح أن ما تبقى لا يزال كثيراً، وموضوعات مثل الملكية الفكرية والتكنولوجيا، ودور الشركات العامة في الصين، وما تقدمه له الدولة من دعم، هي كلها من الموضوعات الشائكة التي يحسن التعامل معها على مهل، ومن رئيس ليس مقدراً له الدخول في انتخابات مرة أخرى. ما يعلمه أن الاتفاق كانت له نتائجه الإيجابية الفورية على الاقتصاد العالمي كله بالارتفاع الذي جرى في البورصات العالمية، بما فيها البورصة الأميركية. كل ذلك مضافاً له حالة الاقتصاد الأميركي، وإدارته للأزمات في الشرق الأوسط، لن يعطي لمنافس فرصة في الانتخابات المقبلة.