مما ينطوي عليه الاغتيال، إسقاط حق المقتول في الكلام، أو فرض الرقابة المطلقة على نصه السياسي. لم يصلح هذا تماماً في حالة الوزير المقتول غيلة، منذ ست سنوات، محمد شطح. فمن سوء حظ لبنان أن نصاً كنص شطح ما زال طازجاً كأنه مكتوب للبنان اليوم وأزماته الثابتة في عمقها وعمق أسبابها وإن اتخذت لنفسها مظاهر مختلفة وترجمات متنوعة.
قُتل محمد شطح، الاقتصادي والوزير والمستشار السياسي رفيع المستوى، في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2013، في واحدة من أكثر لحظات السياسة اللبنانية تعقداً، إبان سقوط حكومة «حزب الله» التي كان يترأسها يومها الرئيس نجيب ميقاتي، وفي ذروة الانخراط العلني لـ«حزب الله» في الحرب السورية.
في تغريدته الأخيرة التي كتبها وهو في طريقه إلى حتفه ذلك الصباح، ما يفصح كثيراً عن موقعه السياسي في صلب المعركة مع ميليشيا «حزب الله»، كما عن طبيعة اللحظة السياسية في حينها كما اللحظة السياسية اليوم.
يقول شطح في تغريدته: «(حزب الله) يهول ويضغط ليصل إلى ما كان النظام السوري قد فرضه لمدة 15 عاماً: تخلي الدولة له عن دورها وقرارها السيادي في الأمن والسياسة الخارجية».
مع كل ذكرى للوزير شطح يستعيد ناشطون وسياسيون هذه التغريدة، التي لم تفقد راهنيتها، رغم الشكل الاقتصادي، وليس الأمني أو السياسي، الذي تتخذه أزمة انهيار لبنان في فصلها الأحدث، وهي المستمرة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، المقتول هو الآخر، في سياق المشروع الإيراني الذي اندفع في المنطقة بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003.
ومما يستعاد من نص شطح السياسي، وإنْ على نحو أضيق من انتشار تغريدته، الرسالة المفتوحة التي نشرتها صحيفة «وول ستريت جورنال» بعد اغتياله بيومين، وكان وجهها شطح للرئيس الإيراني المنتخب حديثاً حسن روحاني. المفارقة أن هذه الرسالة ما كانت لترى النور على الأرجح لولا اغتيال كاتبها. فهي أعدت لتكون رسالة موجهة لروحاني من ممثلي الشعب اللبناني المنتخبين عن فريق «تيار المستقبل» الذي يقوده الرئيس سعد الحريري، ومن قادة ما كان يعرف بتحالف «14 آذار»، إلا أن الرأي استقر بعد مناقشات على، أو هو كان ينضج باتجاه، عدم إرسالها. وما أعرفه أن الرسالة وجدت طريقها إلى النشر عبر نجله الذي ما أراد لصوت أبيه أن يدفن معه، وحسناً فعل للراحل ولنا ولتاريخ هذا البلد الصعب.
مقالة «وول ستريت جورنال» لا تزال تصلح لأن تكون «مانيفستو» لما كان يسميه محمد في أيامه الأخيرة «قضية لبنان»، والتي كان يصر على أن مصيرها لا يتوقف فقط على ما يتخذه لبنان من خيارات، بل على تلك الخيارات التي سيتخذها قادة إيران، بشأن دور بلدهم وأدوار الميليشيات غير الإيرانية، مثل «حزب الله»، المنخرطة في خدمة الدور الإيراني.
في تلك الرسالة المفتوحة، يحدد شطح أربعة مرتكزات لاستراتيجية خدمة «قضية لبنان»:
1 - التزام معلن من قبل جميع الدول الأخرى، بما فيها إيران، بتحييد لبنان على النحو المتفق عليه في إعلان بعبدا. (وهنا لا بد من ملاحظة الفارق بين العمق الاستراتيجي للتحييد كما فهمه شطح، وكما مارسته لاحقاً القوى السياسية اللبنانية تحت عنوان باهت وبلا مضمون واقعي هو «النأي بالنفس»).
2 - إنهاء كل مشاركة عسكرية للجماعات والأحزاب اللبنانية في النزاع السوري، بما في ذلك «حزب الله».
3 - فرض سيطرة فعالة من قبل الجيش اللبناني وقوات الأمن اللبنانية على الحدود مع سوريا، بدعم من الأمم المتحدة إذا لزم الأمر على النحو المتاح بموجب قرار مجلس الأمن رقم «1701».
4 - مطالبة مجلس الأمن ببدء الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ قراره رقم «1701»، بهدف نقل لبنان من وضع «وقف مؤقت للأعمال القتالية» مع إسرائيل، إلى «وقف دائم لإطلاق النار».
«قضية لبنان» بهذا المعنى العملي الذي خطر لشطح أن يخاطب به الرئيس الإيراني المنتخب حديثاً حسن روحاني، هي في الواقع وكما وصفها هو نفسه، ليست سوى «الحقوق الطبيعية الأساسية لأي دولة تسعى لأن تكون حرة ومستقلة».
من المؤلم أن تكون الحاجة ازدادت لمثل هذا النص السياسي ولم تنقص، في ضوء السياسات الإيرانية المتمادية في الاستفزاز والعدوان على أمن لبنان والمنطقة. فها هو الرئيس العراقي برهم صالح يلوح بالاستقالة في مواجهة محاولة إيران فرض رئيس حكومة على الشعب العراقي يرفضه الشارع المنتفض والمذبوح من ميليشيات إيران. وكانت إيران سعت قبل ذلك لمنع استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي. وها هو الشعب اللبناني في انتظار إفراج «حزب الله» عن حكومته بشروط الناس وأمنهم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لا بشروط الصراع الاستراتيجي الذي تخوضه إيران. وهم إذ ترفض غالبيتهم المنتفضة ترشيح السيد حسان دياب يرد عليها مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي بقوله: «المظاهرات المتواصلة في لبنان بعد تكليف حسان دياب بتشكيل الحكومة الجديدة تتم بتحريض من قبل السعودية وإسرائيل».
وها هم الإيرانيون أنفسهم يحرقون صور الخميني في شوارع مدن إيرانية عدة منذ بدء الاحتجاجات والتي لم يجد المرشد علي خامنئي ما يقوله عنها إلا ما قاله لحرسه وجنوده ونقلته وكالة «رويترز»: «افعلوا ما يلزم لوضع حد لها»!!
محمد شطح من الطيبة لأن تبقى ذكراه في نفوس محبيه، لكن من مآسي لبنان أن يظل نصه أخضر كأن شيئاً لا يتغير!