من أجل الاستحقاقات الوطنية، مضى رؤساء الحكومة السابقون في لبنان إلى المملكة العربية السعودية. وإذا كانت المملكة، قيادةً وشعباً، مرجعاً رئيسياً للعالمين العربي والإسلامي؛ فإنها بالنسبة إلى لبنان أكثر من ذلك، أو أنها المرجع الرئيس في الشأنين الوطني والعربي. إذ ينبغي ألا ننسى أنّ المملكة هي التي احتضنت مؤتمر الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب واشترع الدستور، كما أنها عمّرت لبنان ثلاث مراتٍ على الأقلّ. ويعمل لديها مئات الآلاف من اللبنانيين، وصانت سلامة لبنان المالية بوديعة في المصرف المركزي. وهذا إلى جانب مئات المنح والهبات والهدايا طوال العقود الماضية للمؤسسات الدينية والتعليمية والخيرية.
لماذا نذكّر بذلك الآن؟ طبعاً بسبب زيارة رؤساء الحكومة، واستقبال الملك سلمان بن عبد العزيز لهم، والملفات التي حملوها في الموضوعات سالفة الذكر جميعاً، وبسبب الأخطار الكبرى التي تتهدد الكيان والنظام ووحدة الشعب اللبناني واستقراره وأمنه. ويوضّح ذلك كلَّه خطاب الأمين العام لـ«حزب الله» مساء يوم الجمعة الماضي (12-7-2019). ورغم أنّ اللبنانيين والعرب بل والدوليين اعتادوا على تلك اللهجة والممارسات من جانب التنظيم الإيراني المسلَّح طوال ثلاثين عاماً وأكثر؛ فإنه هذه المرة تفوّق على نفسه في اعتبار أنّ النصر قد تحقّق لإيران ومحورها بالفعل في الحرب الاقتصادية والأمنية الدائرة بين الولايات المتحدة وإيران، والتي بلغت إحدى ذُراها بالنسبة إلى لبنان أخيراً بفرض عقوباتٍ أميركية على نائبين في الحزب ومسؤولٍ أمني فيه، بعد أن كانت إدارة ترمب، وإدارات دول أوروبية قد اعتبرت الحزب تنظيماً إرهابياً من سنوات.
إنّ الخطِر على لبنان في الوضع الحالي، هو زوالُ الحدود بين الدولة اللبنانية والحزب، والسائد في لبنان اليوم بدأ قبل نحو العقدين، لكنه بلغ مداه في هذا العهد. إذ فور الإعلان عن العقوبات على هؤلاء الأشخاص، سارع كلٌّ من رئيس الجمهورية اللبنانية، ورئيس مجلس النواب، ورئيس الحكومة، إلى إدانة ذلك، والتضامُن مع النواب الذين وقعت عليهم العقوبات. وقد جاء في حيثيات القرار الأميركي وبناءً على المتابعات الحثيثة اعتبار أنّ أعمال الحزب، ومن ضمنه هؤلاء، تهدف «لتقويض الدولة اللبنانية». ولذلك فإنّ الإدارة الأميركية، ليس الآن بل منذ عهدي أوباما وبوش الابن؛ أصدرت عشرات التحذيرات للبنان أنّ هذه الاختراقات من جانب الحزب للإدارات العسكرية والأمنية والمالية والإدارية في لبنان، تهدّد الداخل اللبناني وعلاقات لبنان العربية والدولية.
مئات المرات من قبل تحدث الأمين العام للحزب عن الارتباط بإيران، وأنّ حرْبه حرب إيران، وسِلْمه سِلْمها. حتى تهديده لإسرائيل تابع لتطورات الصراع الأميركي - الإيراني. وفي السنوات الأخيرة تصاعدت في خطاباته اللهجة العدائية ضد المملكة العربية السعودية. ووصلت مبالغاته أخيراً إلى أنه لولا الحوثيون ومقاومتهم لنجح ترمب في صفقة القرن! لقد جال الحزب وإيرانيوه مقاتلاً وقاتلاً ومهجِّراً في عدة دولٍ عربية بعد لبنان مثل سوريا والعراق واليمن والبحرين والكويت. وفي كل خطوة كان يعلن عن ارتباط ذلك بالاستراتيجية الإيرانية. وهكذا فإنّ حملاته على المملكة عِلّتها أنه في عهد الملك سلمان، تصدى السعوديون والإماراتيون للاجتياح الإيراني مباشرةً وبالواسطة، بوتيرة أعلى؛ فأثار ذلك اهتياج الإيرانيين وأنصارهم، بعد أن كانوا متفرغين للافتخار بالسيطرة على العواصم العربية الأربع! ويعرف السعوديون أكثر من غيرهم معنى التخلّي عن اليمن وعن سوريا وعن العراق وعن البحرين وعن لبنان، وترك تلك البلدان نهباً مستباحاً للتخريب الإيراني. وما من بلدٍ من تلك البلدان إلاّ وللسعودية تاريخٌ معه في الدعم والمساعدة والتضامن والتصدي لكل ما يهدد أمنه واستقراره.
إنّ المزعج والمخزي والمخيف ظاهرة جديدة في تلك البلدان ومنها لبنان؛ أنه صار لإيران أنصارٌ ومسؤولون كبار في إدارات الدول العربية المبتلاة وعلى الأرض، يقدِّمون (وبدافعٍ عقائدي أو مصلحي قريب) المصالح الإيرانية على مصالح بلدانهم وأوطانهم. وقد بدا ذلك في لبنان بوضوح خلال السنوات الماضية. إذ ما اكتفى المسؤولون اللبنانيون جميعاً بالصمت عن استيلاء الحزب على المطار والمرفأ والعديد من المؤسسات، بل انصرفوا أيضاً لتبنّي المقولات الإيرانية تجاه القرارات الدولية، والإجماعات العربية والمصالح الوطنية. وقد صرّح بعضهم بتبنّي مقولة «تحالف الأقليات» في المنطقة بالحماية الإيرانية... والروسية! وصار «الطائف» والدستور والعيش المشترك أشدّ الخصوم. تحدثوا عن تعديل الدستور بالممارسة، وحاولوا في قانون الانتخابات فصل المسيحيين عن المسلمين، وأغاروا على الوظائف العامة بحجة أنها جميعاً من حق المسيحيين، لأنّ المسلمين انتهت حقوقهم من زمان، ومارسوا الفساد المقذع في المرافق والمؤسسات علناً ولا يزالون. وللأسف، كل ذلك باسم «استعادة» حقوق المسيحيين!
ما بقيت هناك معارضة ملحوظة لا لاستيلاء الحزب، ولا لاستيلاء الشعبوية الجديدة. والأمين العام للحزب اعتبر تلك الشعبوية في خطابه الأخير حليفته الفضلى. وهذا التأزم المتصاعد في الدولة والنظام، وبخاصة بعد أحداث الجبل، وتداعيات الانهيار الاقتصادي، هو الذي دفع رؤساء الحكومة لزيارة المملكة، كما يفعل المسؤولون اللبنانيون الكبار في الأزمات. وهذا الموقف الذي بدا في المحادثات مع الملك والمسؤولين الآخرين، ليس الأول للرؤساء. فقد أصدروا من قبل عدة بياناتٍ للتنبيه إلى الأخطار على الدستور، وعلى مالية لبنان، وعلى الاستقرار فيه، وعلى تحويله إلى صندوق بريد بين الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران.
ينصرف المجلس النيابي اللبناني لمناقشة موازنة عام 2019 والعام يتجه إلى الانتهاء. ومع أن أطراف الحكومة الذين صاغوها هم أنفسهم الذين يناقشونها في المجلس؛ فإنّ معظمهم مستاءون، وغير راضين عمّا أُنجز؛ باعتبار أنّ الفساد مستمر، وأنّ رفع الضرائب والضرائب الجديدة تنال من الفئات الشعبية الفقيرة، دون أن تضع حداً للفساد والهدْر. وستتم الموافقة على الموازنة بالطبع. وسيظل الحزب وأمينه العام يهدد اللبنانيين والعالم بالويل والثبور، وستستمر الشعبوية الفصامية في إثارة الطائفية، ونشر الفُرقة بين المواطنين. لكنّ هناك مَن يقول: لبنان كان دائماً هكذا فلا تخشوا حدوث الأعظم. وكل موسم اصطياف وأنتم بخير!