أغرب صفحات التاريخ وأخطرها تلك التي لا يتذكرها الناس في حياتهم اليومية، ذلك من عظمة التاريخ، وعظمة البشر. الناس تفعل والتاريخ أيضاً.
في معزوفة آلاتها العقل وأنغامها الخلق والإبداع، هابيل وقابيل. وقبلهما والداهما. نوح وسفينته. الحروب، الحروب، الحروب. هي الأفواه والأرحام، وفؤوس الأيام وكؤوسها. من حرب ساخنة إلى أخرى باردة يركض البشر دون توقف. من الحرب العالمية الأولى، إلى الثانية، إلى سور برلين، وأخيراً، إلى فضيحة التجسس الأميركية في رابعة النهار في موسكو في شهر مايو (أيار) 2013. كلها سحب تتعالى إلى أرشيف الذكريات التي لا نتذكرها. كانت سرعة الحياة على مدى الوجود تضبطها فاعلية العقل والعضل، عقل العالم المخترع، وكذلك عقل المجتمع.
أقصد بعقل المجتمع عامة الناس وقادة الناس، فالذين قمعوا جاليليو هم سراة القادة الدينيين الذين يتحكمون في العقل والفعل، ومن كفَّر الفيلسوف الكبير سبينوزا وحرض عليه العامة لقتله، هم القادة الدينيون للطائفة اليهودية في هولندا. سرعة الحياة يبدعها المفكرون والعلماء، ولكن الصغار كثيراً ما اغتالوا تلك السرعة أو أبطأوها.
كان القرن السابع عشر الميلادي في أوروبا تحديداً بداية الوجود الإنساني الجديد؛ تراجعت قوى الوهم، وزادت سرعة تراجعها باندفاع قوة العقل، فكان نيوتن ودارون. ومن بعد آينشتاين وبافلوف وتدفق جيش العقل الجرار من الفلاسفة والعلماء، من فولتير إلى ديكارت إلى جون لوك، وهوبز وهيغل، ونيتشه وشوبنهاور وبرتراند راسل، قفزت أوروبا من النهضة إلى التنوير، ولَّدَ العلمُ علماً، ثم قوة، ثم السلطة الضاربة التي قادت إلى الاستعمار.
كان ذاك تاريخاً مضى، لكن بقي، وإن لم يعد الكثيرون يطلون عليه إلا لماماً، لقد طار البشر إلى أعلى عليين، وغاصوا إلى عمق الأعماق. اخترق الإنسان الاختراق أحرق العلم - مقولة - فن الممكن، وتأبط عقيدة المستحيل؛ لكن التعميم هنا هو ضرب من العبث البين. اليوم هناك ملايين البشر يعيشون خارج الدنيا التي نتحدث حولها، هناك اليوم جماعات من الناس لا علاقة لهم بمفهوم «الإنسان» لا تكويناً، ولا تكليفاً، لماذا؟!
لقد أبدع الفيلسوف ميشال فوكو، مدرسة فكرية رائدة من خلال منهج «الحفر» الذي قدم للباحثين أدوات اختراق حصون المعاني، أصبح بها العقل البشري قوة مدرعة مذهلة قادرة على سبر أغوار كيمياء الأفكار والمعاني أفقياً وعمودياً، تداخل العقل والتقنية، وُلدت آلية جديدة لإنتاج المعرفة، ألغيت المسافة بين العقل والعضل، كل ذلك كان من ذرية القرن السابع عشر الميلادي «الأوروبي».
لقد صبَّ الفيلسوفُ الكبير ولترستيس سنوات تلك المرحلة الطويلة الخطيرة في سطور قليلة: «في القرن السابع عشر من الحقبة المسيحية تدفقت سلسلة أحداث تسببت في تغيير ثوري وجدري في صورة العالم عند الرجل الأوروبي».
فقد كان ذلك العصر هو الذي شهد ميلاد العلم الحديث. فهو القرن الذي ظهرت فيه الأعمال الرئيسية لكبلر، وجاليليو، ونيوتن. ولقد كان للعلم جذوره القديمة في الماضي بالطبع. فالثورات سواء كانت سياسية أو عقلية لا تحدث أبداً على نحو فجائي.
لقد خاض بنو البشر معارك دموية طيلة التاريخ. قُتل الملايين بسيوفِ الملايين ومدافعهم، من أجل الثروة والتوسع والحكم والاستعمار، كل ذلك لم يلد سوى الدم والتخلف، لكن هناك معارك أخرى خاضها البشر على مر التاريخ بموازاة تلك الأولى، إنها معارك العلم التي أعادت خلق الدنيا.
كان جنود تلك المعارك، العقل ونقيضه، أهم معركة كما ساقها الفيلسوف ولترستيس، هي «دوافع الأفعال»، هل هي غائية «غرضية» أم «آلية»؟ ولنا في مفاهيمنا الإسلامية ما يقابل هذين السؤالين، فيما عُرف بموضوع «الجبر والاختيار».
فالفعل الغائي جبر، والآلي اختيار، بل إن معركة المفاهيم الأساسية والخطيرة هذه بدأت عندنا قبل الأوروبيين المسيحيين بعقود كثيرة، لكن تكديس حطب السياسة والدين فوق مفاهيمنا أحرقها مع عدد عظيم من المفكرين العظام، فكانت الخسارة والتخلف. من هناك افترقت الطرق، تمسك العقل العربي بقاعدة القياس المقدسة مبكراً، أصبحت مقدسة أدواتها: القلقلة (قال، قال)، والعنعنة (عن فلان عن فلان... إلخ). بقينا في أحسن الأحوال بين صفحات الكتب الصفراء، في حين دخل الآخرون إلى «المختبر».
الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، شخَّص الحالة العربية منهجياً كما رآها من منظور علمي وتاريخي. قال: «حمل العرب تقاليد المدنية طوال عصور الظلام، وإليهم يرجع كثير من الفضل في أن بعض المسيحيين أمثال روجر بيكون قد حصلوا على كل المعارف العلمية التي تهيأت للشطر الأخير من القرون الوسطى. ولكن كان بالعرب آفة تختلف عن آفة الإغريق، فقد كانوا ينشدون الحقائق المنفصلة، أكثر مما ينشدون المبادئ العامة، ولم تكن لديهم المقدرة على استخلاص قوانين عامة من الحقائق التي اكتشفوها».
لم يذكر الفيلسوف راسل الأسباب التي سلطت تلك الآفة على العقل العربي، لكننا سنجد تلك الآفة التي أصابت الفكر العربي مع آخرين، فقد قال راسل في كتابه «النظرة العلمية»: «لم يكن الصدام بين جاليليو ومحكمة التفتيش مجرد صدام بين الفكر الحر والتعصب، أو بين العلم والدين، بل إنه صدام بين (روح الاستقراء وروح القياس). فالمؤمنون بالقياس من حيث هو طريق الوصول إلى المعرفة، مضطرون أن يجدوا مقدماتهم في مكان ما، وهم يجدونها عادة في الكتب المقدسة. والقياس المبني على الكتب المُلهِمة، هو طريق الوصول إلى الحقيقة عند المشرعين والمسيحيين والمسلمين والشيوعيين».
تلك المعركة أو كما سمّاها راسل الآفة عندما أشار إلى العرب، هي التي رسمت مفترق الطرق للعقول. طريق القياس، وطريق الاستقراء.
كانت الانطلاقة في أوروبا شاملة، في العقل والمعمل. الاندفاع في دروب العلم شرّع أبواب الحرية الفكرية من النهضة إلى التنوير، تدفق الفلاسفة العظام... ديكارت، فولتير، أوجست كونت... نيتشه. علم ينتج صناعة، وفكر يلد حرية، وغاص العرب في تراب التراب من المماليك إلى الأتراك إلى الاستعمار.
لكن أوروبا الجديدة لم تكن كلها عقلاً ذهبياً لامعاً، لقد أُصيبت بكل آفات عضلات الطموح، وجنون العظمة الوطنية، لقد بدأت بريطانيا مبكراً مسيرة حاسمة نحو عصر سياسي جديد، بعد حركة كرومويل وصدور «الماغنا كارتا»، لم تغب الدماء عن بريطانيا، لكن قضية الديمقراطية كانت النجم اللامع الذي تشد إليه الأفكار والضمائر. في فرنسا كانت الأفكار عاتية؛ اندفعت أفكار فولتير، وجان جاك روسّو، متوهجة تصنع كوناً من التنوير، وصلت الأفكار الكبيرة الجديدة إلى كل الشرائح، وبدأت تتخلق طبقة وسطى واعية، لكن «الدين»، عاد مرة أخرى يفعل فعله في حركة العقل والعضل. اشتعلت حروب بين المذهب الجديد (البروتستانتي)، والمذهب القديم (الكاثوليكي). كان ذلك حلقة من حلقات الصدام بين الفكر الحر والفكر المتعصب، الإنسان، رحلة في رحلة، كيان يولّد كيانات.