خلافات مرتقبة
منذ أن قامت فكرة إسرائيل ووضع لها مؤسسوها موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط كانت علاقاتها مع الولايات المتحدة استراتيجية وممتدة رغم أنها عرفت في بعض الفترات هزات ومدّ وجزر، لكن هذا التحالف الذي يصفه البعض بالأبدي ظل متماسكا بل وتطوّر بقوة في السنوات الأخيرة حتى أصبحت علاقة أسطورية لا يتصور كثيرون أنها يمكن أن يتسبب تغيير ما في تعقيدها.
لكن، بمجرّد النبش قليلا في الخصائص الداخلية لكلا الطرفين، يتأكد بشكل واضح أن بين الجهتين نقاط خلافات كبرى أو مآزق بالجملة يمكن أن تحدّ في المستقبل من العلاقة التي تجمعهما منذ ما يزيد عن ثمانية عقود.
هنا، تطرح عدة أسئلة حول كيف يمكن أن تعقّد بعض التغيّرات العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، على الرغم من تماهي مواقفهما الظاهر. الإجابة على الأسئلة تقدمها دراسة لمركز ستراتفور للدراسات الإستراتيجية والأمنية الأميركي، عنوانها “كيف يمكن أن تعقّد التغيرات الديموغرافية العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل؟”.
يؤكد مركز ستراتفور أن دعم الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي الأميركيين كان منذ الحرب الباردة قويا بما يكفي للتأثير على الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. وفي كثير من الأحيان، اضطر المسؤولون الأميركيون، الذين أرادوا اتخاذ إجراء في المنطقة يتعارض مع المصالح الإسرائيلية، إلى مراجعة قرارهم.
لكن، التحوّلات السياسية والديموغرافية الجارية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل يمكن أن تساهم في تغيير طبيعة هذه العلاقة المتينة، مما قد يؤدي إلى تقلّبات في علاقتهما التي غالبا ما يحددها الحزب السياسي الحاكم في واشنطن. وذلك بسبب تأثير نسبة متزايدة من الناخبين الأميركيين الشباب، الحاملين لمواقف مختلفة تجاه إسرائيل، على السياسة الأميركية.
وإذا استمر هذا النمط، سيؤدي ذلك إلى تقليل أعباء المسؤولين الأميركيين الذين يسعون إلى إتباع سياسات لا تتفق مع الاستراتيجيات الإسرائيلية. البعض من أوجه صحة هذه الفكرة الأخيرة، لخصتها حركة الحزب الديمقراطي مؤخرا، حيث لم يحضر أيّ من المرشحين الديمقراطيين للانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة مؤتمر لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك) السنوي.
ستغيّر التحوّلات في الأجيال بالولايات المتحدة الطريقة التي ينظر بها الشباب الأميركي إلى إسرائيل. حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث في يناير 2018 أن عددا كبيرا من الأميركيين الذين ينتمون إلى الفئة العمرية بين 18 و 49 سنة لا يتفقون مع إجماع الحزبين الجمهوري والديمقراطي القائل بأن الناخبين الأميركيين يتعاطفون مع إسرائيل ويدعمونها، خاصة في ما يتعلق بالفلسطينيين.
ستكون هناك ثلاثة عوامل ثقافية أساسية ستقود بلا شك هذا التغيير الطارئ. يتمثّل العامل الأول في أن هذه الفئة الشابة تمتلك تجربة تاريخية مختلفة مع إسرائيل مقارنة بالفئات الأكبر سنا، التي تميل إلى أن تكون أكثر دعما لها، حيث لا يحمل طيف واسع من الشباب الأميركي ذكريات مباشرة للحروب العربية الإسرائيلية التي هددت وجود إسرائيل منذ عقود، كما لا تربطه صلة مباشرة بأعضاء جيل الهولوكوست.
التغيرات الديموغرافية في الولايات المتحدة وإسرائيل يمكن أن تخلق ديناميكية سياسية من شأنها أن تتسبب في اختلافات بين الحليفين حول استراتيجياتهما الإقليمية
تجتمع هذه العوامل لتغيّر الطريقة التي ينظر بها هؤلاء الناخبين إلى هشاشة إسرائيل. فبالنسبة لهم، تبدو إسرائيل طرفا دائما في المنطقة، وليست دولة قومية ناشئة يمكن محوها في النزاع التالي. ويجعلهم هذا أقلّ عرضة لتصديق الحجج القائلة إن التغييرات في السياسة الأميركية قد تعرّض وجود إسرائيل للخطر. وبالنسبة لجيل الشباب، يبدو أكثر استعدادا لإدانة إسرائيل وتحميلها مسؤولية عدم إحراز تقدّم في عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، حيث يرون الفصائل الفلسطينية أضعف عسكريا.
أما العامل الثاني، فيكمن في ما تظهره استطلاعات مختلفة تثبت أن الشاب الأميركي أصبح أقلّ تدينا من الأجيال السابقة. ويمثّل الدين عاملا رئيسيا في تشكيل المواقف تجاه إسرائيل. ويبقى العامل الثالث، من أهم الأسباب التي قد تفرز تغيّرات كبرى ويتلخص في كون أن نسبة الشباب الأميركيين المتدينين المسلمين في تزايد.
والدليل على ذلك أن السكان المسلمين في الولايات المتحدة تجمعوا في تجمعات سكانية كبيرة تكفي لإحداث تأثيرات ملحوظة على العملية السياسية في الولايات المتحدة، بما في ذلك ممارسة نفوذهم عبر الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي والجمهوري وانتخاب المشرعين لعضوية مجلس النواب.
على غرار ما يحصل من تطورات ديموغرافية هامة، ستساهم على الأرجح في إعادة تشكيل مواقف الناخبين الأميركيين تجاه الساسة وخاصة تجاه علاقتهم بإسرائيل، فإن الشاب الإسرائيلي بدوره نشأ على القومية الدينية مع نموّ المجتمعات الأرثوذكسية المتطرفة، والتي تميل نحو القومية والتي يفوق معدل المواليد فيها النسب المسجلة في المجتمعات اليهودية الأخرى.
وجلبت موجة كبيرة من المهاجرين الروس في التسعينات من القرن الماضي موجة من القومية التي لا تزال تنمو. وفي الوقت نفسه، عاش الكثير من الإسرائيليين الشباب مع القتال الفلسطيني، مما يدفعهم لدعم السياسات القومية.
أما من الناحية السياسية، فإن عجز اليسار الإسرائيلي عن قيادة البلاد أضعف رخاء اقتصاديا حدّ من جاذبية البلاد. وهنا سيميل الناخبون الذين يبحثون عن حلول لتكاليف المعيشة المتزايدة في البلاد نحو الأحزاب الوسطية ذات النغمات القومية.
وبالنسبة للإسرائيليين، فإن هذه التغيّرات الديموغرافية ستؤدي إلى تناقض استراتيجي. حيث تحتاج إسرائيل إلى دعم خارجي، يأتي أساسا من الولايات المتحدة، للحفاظ على تفوّقها العسكري وتوازنها الاقتصادي.
وفي الوقت نفسه، ستعزز التركيبة السكانية المتغيرة في البلاد السياسات التي تحارب المصالح الإقليمية للولايات المتحدة، مما يعرّض التحالف بين البلدين للخطر. وستسعى الكتلة القومية والدينية في إسرائيل إلى فرض سياسات تدفع البلاد إلى مسار الدولة الواحدة.
في الفترة الراهنة، تسير كل الأمور بعكس ما تظهره التوجهات الجديدة، حيث إن رئيس الوزراء الإسرائيلي ما انفك مؤخرا يوظف هدايا ترامب في معاركه الانتخابية التي ستجرى في 9 أبريل القادم، وبدوره مازال الرئيس الأميركي دونالد ترامب يراهن على اللوبيات الداعمة لإسرائيل طمعا في نيل ولاية رئاسية ثانية على رأس الإدارة الأميركية بعدما دعمته بشكل كبير ولافت في 2016، على ضوء حملته الانتخابية آنذاك والتي وضعت كل الملفات التي ترغب بها إسرائيل وعلى رأسها القدس والجولان، وكذلك الحد من نفوذ طهران في المنطقة وتحديدا في سوريا.
لكن في المستقبل، ستمنح التغييرات الديموغرافية المتطورة في الولايات المتحدة السياسيين الأميركيين حرية أكبر لفتح نقاش حول دور إسرائيل في الإستراتيجية الأميركية، على الصعيدين الإقليمي والعالمي. ومع مرور كل دورة انتخابية، ستظهر هذه التغييرات بشكل متزايد.
والأكيد أن إسرائيل ستحاول في مساع حثيثة لتعويض هذا التحول في السياسة الداخلية للولايات المتحدة، البحث عن سبل لاستكمال أو استبدال الدعم الأميركي. وبمنطق لا صديق دائما ولا عدو دائما، طورت إسرائيل في السنوات الأخيرة علاقاتها مع الصين روسيا.