في واقع الحال، يمكن للمتبصر في رصده لحال مجلس التعاون الخليجي اليوم أن يلحظ أنه يمر بأوهن مراحله، نظراً لما تداعى على أساساته من مخلفات الثورات التي قامت غرة عام 2011.
وكان العامل المشترك الذي استقوى فشق عصا التعاضد عاملين اثنين، لم يكن لهما أن يؤثرا لولا الدفع بهما؛ الأول الانتشار العددي الكثيف لقيادات، أو أعضاء، أو مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين في كل البلدان الخليجية. وهؤلاء ينظرون للثورات على أنها حراك مقدس، وفرصة اقتناص لن تتكرر لهم بعد طول انتظار وشهية مفتوحة لكرسي الحكم في أكثر من بلد عربي، بما فيها الدول الخليجية التي تعيش داخل قلعة حصينة اسمها مجلس التعاون الخليجي. العامل الثاني هو الموقف القطري المؤيد تأييداً مطلقاً لجماعة الإخوان المسلمين، وكان هذا الدور نشطاً إعلامياً ومالياً في كل الدول التي قامت فيها الثورات لهدف تمكين الجماعة من الحكم في مصر وتونس وليبيا، وحتى داخل البيت الخليجي بكل أسف. في الكويت لم يسمح الدستور للحكومة بصدٍ جاد لثورة الإخوان المسلمين لأنه يعطي مجلس الأمة من الصلاحيات ما يتجاوز صلاحيات الحكومة، فكانت الكلمة الأخيرة للشارع الذي قامت قائمة الإخوان المسلمين فيه بكل ما تسره نفوسهم من طموحات، ولولا سقوط حكم محمد مرسي في مصر لكانت الكويت في حال غير حالها اليوم. ولم تقف هبة النظام القطري عند ذلك الحد، بل كانت إعصاراً مدمراً جاب سماء الخليج، فكان عوناً للإيرانيين ضد جارته البحرين، وثبت ذلك بالتسجيلات الصوتية التي بثت بين حمد بن جاسم بن جبر والمعارض المدعوم من إيران علي سلمان زعيم حركة الوفاق.
أما الإمارات العربية المتحدة فواجهت مؤامرة إخوانية مدعومة من القطريين لزلزلة النظام الحاكم، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافها لسببين؛ أولهما قوة النظام الحاكم وتماسكه، والثاني أن البيئة الاجتماعية الإماراتية لم تؤدلج، فكان أعضاء الإخوان المسلمين فيها غرباء بتأثير لا يكاد يذكر. وغني عن القول ما قامت به قيادات الجماعة من السعوديين داخل المملكة بتمويل قطري من تحريض للشارع علناً من خلال منصات التواصل الاجتماعي، وهاجر منهم إلى تركيا وبريطانيا يرتزقون من المال القطري ولا يزالون يستجدون تحويلاتها المالية. كانت دول الخليج رغم ذلك عصية على النظام القطري بالنظر لقوتها الاقتصادية والسياسية وثقلها الدولي، خصوصاً المملكة والإمارات اللتين كانتا الدولتين العربيتين الوحيدتين اللتين قدمتا العرب تقديماً لائقاً خلال منتدى دافوس الاقتصادي العالمي قبل أسبوعين. لكن المؤكد أن العلاقات الخليجية ما قبل الثورات ليست كما بعدها، رغم محاولات الصلح، واجتهاد حكماء الخليج لإيجاد خط رجعة للنظام القطري.
بعد هذه التجارب الصعبة التي عانت خلالها دول الخليج الأربع من الغدر القطري، كان لزاماً الوقوف ومراجعة النفس، وتقديم أمن الدول واستقرارها على علاقة لوثتها الخيانة من قِبَل نظام بلد صغير يمارس مراهقة سياسية ضد من كانوا إخوته وجيرانه.
هذه المراجعة السريعة كانت مهمة للوصول إلى نتيجة قطعية مفادها أن العلاقات السعودية الإماراتية اليوم هي الوتد المتبقي لرفع سقف البيت الخليجي، ولولاها لانهار منذ سنوات. ولأن رب ضارة نافعة، فإن هذه العلاقة التي تزيد كل يوم تميزاً وتقارباً وإيماناً بالمصير المشترك كما تذكر أدبيات مجلس التعاون الخليجي، تجلت في حرب اليمن، فالرياض وأبوظبي قررتا الدخول في خندق واحد ضد ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران. ومع أن الدول العربية في تاريخها الحديث تحالفت في حروبها ضد عدو مشترك، لكن يبقى التحالف السعودي - الإماراتي هو الأبرز والأكثر صدقاً واستدامة، خاصة مع التقارب الواضح بين القيادات السياسية، والتواصل بين فئات المجتمعين الثقافية والفكرية على نطاق واسع.
وكنت قبل أيام قد تلقيت دعوة كريمة من الشيخ سعود المريبض، راعي ندوة المريبض الثقافية التي تأسست عام 2000. وكانت مناسبة الندوة هذه المرة الاحتفاء بمرور مائة عام على ميلاد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله. تحدث خلال الندوة مدير عام إعلام أبوظبي الدكتور علي بن تميم، والزميل القدير سلمان الدوسري، اللذان أسهبا في سرد العلاقة التاريخية بين السعودية والإمارات.
ما لفتني خلال المحفل، معرض الصور الذي يضم قصاصات لصحف سعودية صدرت منذ أربعين عاماً، أي تقريبا بعد 3 أعوام من إعلان اتحاد الإمارات. منها الصفحة الأولى لصحيفة «عكاظ» بتاريخ 23 أغسطس (آب) 1974 بعنوان رئيسي: الأمن العربي لا يتجزأ. وفي التفاصيل برقية بعث بها الشيخ زايد إلى الملك فيصل رحمهما الله بعد زيارته للمملكة، وأقتبس هنا جزءاً من برقية الشيخ زايد: (إننا نعتبر هذا اللقاء الأخوي بداية للتعاون والتنسيق بين بلدينا الشقيقين في كل المجالات، ونعاهد الله على أن نسير سوياً على طريق الخير والمحبة في سبيل إعلاء كلمة الله، والذود عن الأمة الإسلامية والأمة العربية المجيدة). وأقتبس كذلك من برقية الرد من الملك فيصل (إن اللقاء الأخوي الذي تم بيننا وبين سموكم لهو بداية الطريق نحو مستقبل مشرق وضّاء لأمتنا العربية والإسلامية، وإننا سنسير سوياً تحوطنا رعاية الله، ويحدونا الإخلاص لله، ونصرة دينه، ومناصرة الحق».
هاتان البرقيتان تعبران تماماً عن حال الدولتين اليوم و(الزايدية)، أي عيال زايد، مشوا على خطى رسمها لهم الشيخ زايد، مستلهمين من فراسته وثقته بأن العلاقة مع المملكة العربية السعودية هي قوة للمنطقتين العربية والإسلامية، وكما نفهم من كلمات الملك فيصل فإن الهدف من هذا التعاون وتعزيز قوة البلدين ليس الهيمنة على ما وراء حدودنا الجغرافية، أو اللهث خلف أطماع رخيصة تزهق معها الأرواح وتدمر في طريقها البنيان، بل لنصرة الحق.
مجلس التعاون الخليجي يمر بأزمة، كلنا ندرك ذلك، لكن الأمل الوحيد الذي قد ينبئ بمستقبل أفضل هي تلك الوشيجة التي تربط الرياض بأبوظبي، ولهذا يمارس عليها التهجم ومحاولة التفرقة ممن يستشعرون تهديداً لمصالحهم بسبب هذا التقارب، فهي كل ما تبقى من منظومة كنا نفاخر بتآلف أعضائها.