كسر وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس الصورة النمطية لإسرائيل بشأن علاقة بلاده بلبنان.
غانتس، وهو بالمناسبة الجندي الإسرائيلي الأخير الذي غادر لبنان وأغلق البوابة الحدودية خلفه عام 2000، قال في تصريح، إن «القلب يعتصر لمشاهدة صور الجياع في الشوارع اللبنانية»، مؤكداً أن «إسرائيل مستعدة لمد يد العون للبنان عبر جهات دولية ومساعدته للخروج من أزمته الحالية نحو النمو والازدهار».
وأضاف غانتس، وهذا الأهم في كلامه، «نحن نلاحظ حالياً نوعاً من الانقلاب الصامت، حيث تتغلغل جهات وهيئات إيرانية خطوة تلو الأخرى في لبنان، وتحاول إدخال وسائل قتالية وبث الآيديولوجيا المتطرفة، وهذا يشكل خطراً على لبنان والمنطقة بأسرها».
بالتزامن مع كلام غانتس، خطب الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله حول موقعية لبنان في معركة إنهاء الهيمنة الأميركية في المنطقة كمقدمة لتحرير فلسطين، بصرف النظر عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، والذي، بحسب نصر الله، يحتاج إلى معالجات تحصل بالتوازي مع مشروع مواجهة أميركا وإسرائيل! بل استفاض زعيم ميليشيا «حزب الله» في تحميل واشنطن (حامية إسرائيل) المسؤولية عما آلت وتؤول إليه الأوضاع في لبنان، وكان استفاض قبل ذلك في تقديم إيران كمصدر من مصادر الحلول لأزمة هذا البلد.
إننا إذن أمام نص إسرائيلي يعرض المساعدة على لبنان ويقول، إن الهدف النهائي من الانسحاب من لبنان عام 2000 كان إنهاء النزاع والوصول إلى السلام، ونص إيراني يريد الاستمرار في توظيف لبنان في صراع لا علاقة له بأسباب لبنانية، كالحدود والموارد أو غيرها، بل بمشروع عقائدي استراتيجي اسمه إنهاء الهيمنة الأميركية «والإسرائيلية» في المنطقة!
الحقيقة، يحتاج اللبنانيون إلى أن يُجروا فيما بينهم محادثة صريحة وموضوعية حول إسرائيل، وبالتالي حول «حزب الله» واستخدام إيران بلادهم في معركة ليست بالضرورة معركتهم، أو معركة جزء كبير منهم!
لا وقت أفضل من هذا الوقت لمثل هذه المحادثة. فلبنان يندثر لا بفعل أي شيء قامت به إسرائيل، بل بسبب سياسات، نجح أصحابها في البقاء في مواقعهم وفي سدة القرار من خلال توظيف انتهازي في العنوان الإسرائيلي، ومنع أي نقاش حقيقي حوله. بل هم عبر مصادرة المحادثة حول العنوان الإسرائيلي استحوذوا قسراً على البلاد والعباد والمقدرات، وأخذوا لبنان إلى خيارات أدت في نهاية المطاف إلى الانهيار الحاصل، بعد إخضاع عموم الطبقة السياسية وتحويلها إلى مجموعة من المنتفعين والفاسدين.
في العادة، تغلف هذه المحادثة بالكثير من الخوف أو التقية أو الانتهازية.
بطبيعة الحال سترفض الدولة اللبنانية مساعدة إسرائيل، على قاعدة أن إسرائيل عدو. فهذا هو الإجماع السياسي الوحيد في لبنان عند كامل النخبة السياسية والإعلامية والثقافية، وهو بالطبع إجماع مزيف؛ إذ يكفي أن نتوقف عند مثابرة «حزب الله» على اتهام خصومه ممن يشاركونه السلطة، بأنهم أدوات إسرائيلية.
أما انتفاضة الشبيبة اللبنانية فحيدت سلاح «حزب الله» كمسؤول مباشر عن الأزمة كي لا تُتهم بالعمالة للخارج، ثم استثمرت خلال حرب غزة الأخيرة في الكثير من اللغو النضالي المعادي لإسرائيل، وهي مناورة لم تسعفها لأنها في نهاية الأمر اتهمت بما حاولت تفاديه، وبكثرة. وخففت قوى الثورة من حجم مسؤولية «حزب الله» عن الكارثة التي يعيشها لبنان بدمج مسؤولية الحزب بمسؤوليات كثيرة أخرى، فضاع العنوان، حتى حدود الفوضى التي تساوي في المسؤولية بين حسن نصر الله وبين مي شدياق أو الوزير ديميانوس قطار!
هكذا انتهى شركاء «حزب الله» في السلطة والمنتفضون ضد كل السلطة في الشارع إلى أن يكونوا أدوات في خدمة سردية «حزب الله» التي تمكنه من مصادرة الإرادة السياسية والقرار السياسي في لبنان. ولكن هل فعلاً أن مواقف اللبنانيين من إسرائيل والسلام معها هي المواقف المعلنة أم أن محادثة شفافة قد تكشف حجم الزيف والانتهازية في المواقف المعلنة؟!
اليوم إسرائيل تعرض المساعدة وتقول إنها لا تريد النزاع، وإيران عبر «حزب الله» تقول مستمرون ببناء لبنان المقاومة. ما الذي يعنيه ذلك، وبصرف النظر عن القبول الرسمي به أو لا؟
يعني أولاً أن لبنان يمكن ألا يكون أسير نزاع أبدي مع إسرائيل، يؤبد بالتالي ميليشيا «حزب الله» التي تخطف البلد لصالح أجندات هي الآن آخر هموم اللبنانيين. هنا بيت القصيد. إن أسوأ السياسيين اللبنانيين هم أقل سوءاً في حال غياب «حزب الله» عن المعادلة الداخلية.
ويعني ثانياً أن إسرائيل هي آخر مصادر الشر الذي يحيق بلبنان. سبق لإسرائيل أن هددت بتدمير البنية التحتية اللبنانية. صحيح. لكن هل لنا أن نلاحظ أن لبنان غرق الأسبوع الفائت بأكثر من 63 ساعة من العتم على كامل أراضيه، لا بسبب إسرائيل، بل بسبب الفشل الإداري والسياسي والاجتماعي للبنان المقاومة!
هل لنا أن نلاحظ أن مرفأ بيروت انفجر لا بفعل عمل عدواني إسرائيلي، كما يقر حتى «حزب الله»، بل بفعل اقتران الفساد مع سوء الإدارة، وتحويل لبنان إلى مخزن مقدرات لميليشيا إيرانية؟ ألم يُكشف أن نترات الأمونيوم، قبل تدميرها ثلث بيروت، استخدمت لإسناد براميل بشار الأسد؟! من أشرف على خط التوريد هذا، وقبله من أشرف على إدخال المواد وخزَّنها؟ الأكيد ليس إسرائيل.
هل يمكن أن يمر على لبنان، في أعتى الحروب المحتملة مع إسرائيل، ما هو أسوأ من تفجير مرفأ بيروت وشبه انهيار بنيته التحتية التي تبدا من الكهرباء وتلوث مياه الشرب ولا تنتهي عند نزيف الأدمغة الحاصل والعابر لكل القطاعات الحيوية؟
إسرائيل لا تريد مساعدة لبنان إلا لأن مساعدته تفيدها. هكذا تتصرف الدول في كل العالم. وهذا ما فعلته إسرائيل نفسها حين انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وترك المقاتلون الفلسطينيون «فتح - لاند» جنوب للبنان، وصوّبوا بنادقهم إلى الداخل اللبناني لمقاتلة المسيحيين. لم تستثمر إسرائيل لحظة الفراغ الفلسطيني والفراغ الناتج من غياب الدولة في الجنوب لاحتلال الجنوب (ستحتله لاحقا عام 1978)، بل بنت مع الجنوبيين، المسلمين والمسيحيين والدروز، آلية «الجدار الطيب» الذي سمح لهم بالعبور للعمل داخل إسرائيل أو بيع محاصيلهم فيها.
إسرائيل اليوم تراقب لبنان وهو ينهار باتجاه التحول أكثر وأكثر إلى عصا بيد «حزب الله» وإيران، وهي لا تريد ذلك على حدودها. هل يريد اللبنانيون ذلك؟ هل يريدون أن يضحوا بكل الإمكانات الكامنة لهذا البلد من أجل تحقيق هدف أن يكونوا مخلبا إيرانيا مسنونا على حدود إسرائيل؟ هل يريدون تأجيل كل شيء إلى حين الاتفاق على حكومة تطمئن لها «المقاومة» وإجراء انتخابات رئاسية تطمئن لها «المقاومة»، ونيابية تطمئن لها «المقاومة»، ومعادلة سياسية ووطنية تطمئن لها «المقاومة»؟!
أشك أن هذا طموح لبناني. وبالتالي، هل هناك مصلحة لبنانية - إسرائيلية مشتركة أكبر من الأوهام التي يروج لها بناة لبنان المقاومة؟ وهل تبدأ هذه المصلحة بإحداث قطيعة مع لبنان الإيراني وفتح المجال أمام لبنان جديد قادر على تفعيل الإمكانات الكامنة لهذا البلد الصغير خارج سردية «لبنان المقاومة»؟!
هل يمكن للبنانيين إجراء محادثة شفافة وصادقة وحقيقية حول هذه الأسئلة؟ مجرد محادثة، لا أكثر ولا أقل.
ولكن قبل البدء، لهم أن يتذكروا أن إيران، التي يخطب حسن نصر الله باسمها في بيروت، ولأجلها ذهب بعيداً في تغيير وجه لبنان، طلبت معونة إسرائيل عام 1985 للحصول على قطع غيار لأسلحتها الأميركية الموروثة عن الشاه، لإسناد الحرب مع العراق، وأنها أوفدت لإتمام المهمة نجل آية الله كشاني إلى تل أبيب!
نحن لا نريد سلاحاً من إسرائيل لنقتل به عرباً أو عجماً. نريد أن تكون لنا بلاد عادية، بكل ما تحمله كلمة عادية من معان...
لا نريد أن نكون رسالة للعالم، ولا أن نكون صندوق بريد.