اعتقد الإيرانيون أنهم يستطيعون التعامل مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في عهد الرئيس بايدن، كما يتعاملون في العادة مع دول الإقليم. فزادوا من حدّة الصراع في مفاوضات «النووي» بالإصرار على إسقاط كل العقوبات، وأنشبوا صراعاً مستمراً في العراق، وصعّدوا باليمن إلى أقصى الحدود، وأعلنوا الوقوف إلى جانب «حماس» في فلسطين، والانحياز علناً إلى «طالبان» في أفغانستان. وأجاب الأميركيون على تردد بتعسير التفاوض على «النووي»، كما شنوا غاراتٍ على الإيرانيين وميليشياتهم على الحدود العراقية - السورية، وبداخل سوريا. وأعلنوا باستمرار عن معارضتهم الشديدة لتصرفات الحوثيين باليمن وتجاه المملكة. فهل هناك تغيير في السياسات الأميركية الجديدة - القديمة في المنطقة، وهل هو ممكن؟
حتى الآن، لا يبدو ذلك ممكناً. فهم ملتزمون بالعودة إلى الاتفاق النووي وما يستلزمه ذلك من إسقاط العقوبات الأقسى والأشدّ ضرراً على إيران. ومنذ أيام أوباما إن لم يكن أبعد، هم ملتزمون بالخروج العسكري من الشرق الأوسط وما حوله. وحتّى في أيام ترمب ظلّوا شديدي الحذر في الاندفاع باتجاه المواجهة العسكرية ولو مع الميليشيات التابعة لإيران. وها هم يخرجون من أفغانستان مع تيقنهم من سقوط البلاد بأيدي «طالبان» خلال شهور، وهم ماضون في التفاوُض مع الحكومة العراقية على خروج الـ2500 عسكري في ذلك البلد. ولا أحد يعرف متى يقررون إخراج عساكرهم من سوريا وترك الأكراد وشأنهم!
إنّ هذا «التلبُّث» الاستراتيجي في الأسابيع الأخيرة، كما بدا في اجتماع الأطلسي، وفي مؤتمر روما، وفي التصرف الهادئ تجاه تركيا، لا يعود إلى الالتزامات الداخلية خلال معارك الرئاسة فقط والمزاج المتغير ليسار الحزب الديمقراطي، والحرص الأكبر على مراعاة حقوق الإنسان؛ بل إلى الوجود المتزايد للصينيين والروس في كل مكان، وليس في المنافسة التجارية والمناطق الاستراتيجية فقط، بل وفي القوى العسكرية المتقابلة.
ليس خافياً أنّ الروس والصينيين داخلون بقوة في صراعات القرن الأفريقي إلى جانب آبي أحمد وإريتريا ضد إقليم تيغراي، وربما في تجاذبات وادي النيل. وعندما انسحب الجيش الإثيوبي من الإقليم الاتحادي المتمرد أخيراً وعاد المتمردون لأخذ عاصمة الإقليم وبعض المدن، فإنّ الأميركيين (والأوروبيين) الذين كانوا يطالبون بالانسحاب الإريتري ووقف المذابح والتهجير، اعتبروا ذلك انتصاراً لهم. أما الإثيوبيون فقد اعتبروا أنّ الولايات المتحدة إنما تثير حرباً أهلية في إقليم تيغراي! إنما في الوقت نفسه وحين كان الأميركيون يناضلون من أجل كسب السودان بعد الثورة؛ فإنّ الروس كانوا يقيمون قاعدة عسكرية بحرية في السودان!
الصراع على القرن الأفريقي، وعلى أفريقيا عامة على المديات الاستراتيجية، والثروات المائية، وأسواق الطاقة والمعادن، والتي قطعت فيها الصين أشواطاً، وتريد روسيا الاتحادية بقوة الدخول إليها كما صار في أفريقيا الوسطى والآن في مالي (بعد تراجع حملة برخان الفرنسية)، يتسع لها أيضاً الميدان الاستراتيجي للشرق الأوسط. فالصين عقدت اتفاقاً استراتيجياً مع إيران مدته خمسة وعشرون عاماً. ولروسيا وجود عسكري كبير في سوريا، واتفاق على تنظيم النفوذ مع إيران وتركيا. وتركيا تجد بعضاً من الراحة بعد ترمب في التنافس الروسي الصيني - الغربي عليها. في حين يسارع الأوروبيون إلى تخصيص 3 مليارات دولار لتركيا من أجل اللاجئين، اعتبرتها تركيا غير كافية على الإطلاق. وما استطاع مؤتمر روما الإقناع بالقواسم المشتركة بين القوى والقواعد العسكرية في سوريا والعراق؛ من خلال الاستمرار في الزعم بمكافحة الإرهاب. فحتى وزيرة الدفاع اللبنانية المقاتلة أرادت أن تجعل من نفسها شريكاً في هذا التحالف الكبير رجاء الحصول على الدعم للجيش اللبناني الجائع! بينما كان الخبراء الاستراتيجيون بالمؤتمر ينبهون إلى تحول الإرهاب باتجاه ليبيا والنيجر والساحل ومالي ونيجيريا. فإذا وصل الأمر إلى مآلات المؤتمرات الكثيرة حول ليبيا والمطالبة بخروج الجيوش والميليشيات منها، يصرخ فيهم الروسي أنّ الخروج ينبغي أن يكون متوازناً ومتوازياً وإلا اختلّ الميزان العسكري في البلد العربي المتصدع!
في الشرق الأوسط، كما في أفريقيا تشابكٌ استراتيجي تتخلله اشتباكات. وما نسي أحدٌ بعدُ حرب غزة، التي سيطر عليها الخراب، وراحت مصر تلملم الجراح، وتهدّئ الأمزجة. في حين سار إسماعيل هنية في مواكب الانتصار من قطر إلى المغارب، وحطّ الآن رحال انتصاره على بيروت، وبالطبع في نظر الجمهور: لمن الانتصار؟ لإيران، بما في ذلك ميليشياتها من لبنان إلى الحوثي باليمن! لكنْ: على مَنْ الواجبات؟ على الولايات المتحدة حليفة إسرائيل الأولى (وليس بالطبع على الصين وروسيا!) التي يكون عليها أن تحمي إسرائيل وتطمئنها، وأن تُقنع من طريق ذلك حكومة إسرائيل الجديدة باستعادة التفاوض مع الفلسطينيين. بل والترجي لما هو أقل من ذلك: إعادة إعمار غزة.
ما يزال الأميركيون القوة الأعظم في العالم اقتصادياً واستراتيجياً وعسكرياً. لكنّ القوة الأميركية ما عادت الوحيدة منذ مدة، من دون أن تنقص مسؤولياتها، وبدون أن تتمكن من تدبير شؤون العالم، شأنها خلال الحرب الباردة وبعدها. وأكبر الدروس وأبقاها التي تعلمها الأميركيون في الحرب الباردة وبعدها: عدم الدخول في نزاعاتٍ طويلة. في كل النزاعات الطويلة خسرت القوة الأعظم. وقد اعتادوا على الدخول في الحروب بحماس، والخروج منها مجرجرين نادمين.
فماذا يفعلون هذه المرة في الشرق الأوسط بالذات؟ هل ينسحبون متجرجرين كما فعلوا منذ عام 2010 بالعراق؟ انسحاب فعودة فانسحاب! الإيرانيون والروس لا تهمهم خسائرهم البشرية، وهم لا يأبهون للخسائر المعنوية. والصينيون يظلون مع الجميع ويحاشرونهم ويخلفونهم عن طيب خاطر إذا غابوا. وإذا كان الأميركيون يتقبلون بالتدريج الهزيمة في أفغانستان، فلماذا لا يتقبلونها في العراق وسوريا، وهي خسارة حاصلة بالفعل!
لن يستمر الأميركيون في مواجهة ميليشيات إيران، خوفاً من سقوط حليفهم الكاظمي بالنقاط أو بالضربة القاضية. ولن يستمروا في قيادة مفاوضات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، خشية أن يتمرد عليهم الإسرائيليون، ويقطف الحماسيون وليس الفلسطينيين ثمار الانتصار!
ولذلك، ورغم كل المصادر والمظاهر فالمرجح بالموازين الحالية، أن يضربوا ليس من أجل الانتصار والبقاء، بل لكي تنسحب قواتهم بأمان. لكن ماذا يفعلون مع الروس والصينيين؟ وقبل ذلك ماذا عن حلفائهم الذين يعتمدون عليهم في المنطقة والعالم؟ وماذا لو أنتجت إيران النووي واستمرت في إسقاط الدول؟ وكلها أسئلة برسم الحاضر لا المستقبل.