دفعني للعودة إلى هذا الموضوع الذي تحدثت فيه وكتبتُ مراراً لعشر سنواتٍ وأكثر - تعليق الزميل الكبير الدكتور خالد الدخيل أنّ الذين يعارضون تيارات الإسلام السياسي إنما يستهدفون إقصاءها، فيتساوون معها هي التي تعمل على الإقصاء أيضاً!
إنّ الذي أراه أنّ الأمر أجلُّ من ذلك بكثير، ولو كانت المسألة مسألة إقصاءٍ متبادلٍ بين خصومٍ ثقافيين وسياسيين وحسْب، لما كان الخوض فيها مع أحد الفريقين يستحق الاهتمام والتعليق.
بين قيام الثورة الإيرانية عام 1979 ومقتل الرئيس السادات عام 1981 لفت الانتباه استسهال اللجوء إلى العنف، والتباينُ الكبير في الموقف من الدولة الوطنية الحديثة. فمنذ الستينات من القرن الماضي، وخلال الصراعات الثقافية في الحرب الباردة، تبلورت الأصاليتان: أصالية الدولة الوطنية التي يبنيها العسكريون والأمنيون، وفي مواجهتها أصالية الحاكمية وتطبيق الشريعة. وكلما ازداد فشل التجارب الأمنية والعسكرية والاستراتيجية ظهوراً، ازدادت شعبية الراديكالية الأُخرى التي تبينت قوتها في الثورة الإيرانية. وفي الوقت نفسه تبين الافتراق الكبير بين الرؤيتين والممارستين في الحرب الأسطورية بين نظام صدام حسين ونظام الملالي الناشئ.
ما هي مهمة الدولة، أي دولة، في القديم والحديث؟ الإصغاء لمتطلبات الهوية العامة للمجتمعات، وحسن إدارة الشأن العام. وقد ركّز العسكريون والأمنيون والصحويون على مسألة الهوية وإن اختلفت نقاط التركيز، لكنّ الطرفين فشلا في إدارة الشأن العام، وذلك لأنّ ذهنية التفكير والإدارة لدى الصحويين الإسلاميين ولدى العسكريين القوميين واليساريين، ظلت ذهنية الثورة في مواجهة الاستعمارين القديم والجديد. وكلما اشتد الصراع على الجبهتين الخارجية والداخلية، ازدادت راديكاليات التوجه والتصرف، وبالطبع فإنّ الصحويات ذات العقدية الدينية تكون الأكثر اندفاعاً والأكثر تأثيراً؛ وبخاصة أن العسكريين القوميين واليساريين كانوا في السلطة، أما الصحويون اللائذون بالقدسية الدينية فهم في المعارضة!
ولكي لا نشطَّ ونستطرد في تتبع تاريخ الصراع على السلطة ننصرف إلى ثوران ما صار يُعرف بالربيع العربي الذي برز فيه الصحويون أصحاب أطروحة الإسلام هو الحلّ، و«الجهاديون» الذين أرادوا تطبيق الشريعة بالقوة لإقامة الدولة الإسلامية في مواجهة الدولة الوطنية المتغربة. لقد مرت عشر سنواتٍ على التجربتين: الإحيائية الصحوية، والجهادية القتالية. وقد كنت أرى أنّ الأصل واحد، وإن اختلفت أساليب النضال من أجل تحقيق المشروع.
لقد كانت تجارب السنوات العشر في العالم العربي على وجه الخصوص شديدة الهول. فبعد أقلّ من سنتين من أفكار وممارسات المدنية والدقرطة، عاد الصراع على أشده للاندلاع بين العسكريين (الذين ظلوا يمثلون الدولة الوطنية!) والإسلاميين. وعندما ندرس اليوم مآلات الصراع نجد أنه وصل إلى مرحلة حاسمة قبل أربع أو خمس سنوات: انتقلنا من الخوف من الدولة إلى الخوف عليها. ووجدنا أنّ الناس الذين كرهوا عسْف العسكريين، ما كان بوسعهم الاستكانة لشمولية الإحيائيين، فضلاً بالطبع عن وحشية «الجهاديين». العسكريون يتبنون النموذج الحديث وإن لم يحسنوا أو لم يريدوا مراعاة تطبيقاته الإنسانية والحقوقية، بينما لا يمتلك الإسلاميون غير العنيفين نموذجاً غير خليطٍ من الشعارات الهوياتية، والأخرى الحداثية التي يحاولون أسلمتها. وبالطبع فهم يحسنون مخاطبة الجمهور أفضل من دون أن يتمكنوا من إحقاق شعاراتهم لا قبل الانتخابات ولا بعدها.
وبدون كلامٍ كثيرٍ يوشك أن يصبح مُعاداً ومكروراً، لا يمكن اعتبار النموذج الهجين للإسلاميين أملاً في الحاضر أو في المستقبل. أما النموذج الآخر فينبغي أن تُداخله تعديلاتٌ كبيرة في طرائق التفكير وفي طرائق الإدارة. نحن محتاجون إلى دولة وطنية هي النموذج الأوحد الممكن في العالم المعاصر. وليس بيننا كبير أحد يميل إلى نموذج «داعش»، أو نموذج بشار الأسد. وفي عالم الكون والفساد - بحسب أرسطو - لا مكان للنماذج البدئية التي يقيمها ماكس فيبر. وإنما هناك العودة إلى نموذج العقلانية العادية والإنسانية للسلطة: حُسْن إدارة الشأن العام، بما يُحسِّن حياة الناس، ويحفظ حقوقهم الأساسية. وسيعيننا على إحقاق ذلك هذا «المثال» العالمي الذي لم يعد الإخلال به ممكن الاستمرار أو الدوام حتى مع وجود الميليشيات ووجود أنصارهم في النظام الدولي.
كيف تنحلُّ مشكلات الهوية؟ الحلُّ الإيراني غير ممكن في المجال العربي، فنحن لا نملك مقدَّس الإمامة. وقد تحول النموذج الإيراني في تصرفاته بالداخل والخارج إلى نموذج طائفي ومذهبي مقيت، سيتجاوزه الشعب الإيراني ليس بلا آلام، إنما الأمل ألا يحدث عندهم ما حدث في عدة بلدانٍ عربية.
أنا لا أُنكر أنّ الجمهور في بلداننا يريد علاقة من نوعٍ ما وانسجاماً بين الدين والدولة. لكنّ «الصيغة» الأمثل ما وُجدت بعد، وهذا «الإشكال» هو الذي ما يزال يُغري جماعات الإسلام السياسي، ويخيف العلمانيين. يتوسل الإسلامي بالحرص على الهوية، وبخطاب شعبوي ضد الفساد. لكنه لا يصبر على السلم وعلى الطهورية عند الضيق. وفي الجدالات التي اندلعت وما تزال بعد فضيحة الفريقين يبدو القاتل والقتيل بنفس المنزلة في حرص كلٍ منهما على الإزراء على خصمه وإلغائه. وليس بين «داعش» وبشار الأسد وميليشيات إيران وتركيا من خيرة لمختار. هل يمكن الخروج من عقلية وممارسات الانتقام من جانب الطرفين وبخاصة أهل المواطنة المدنية؟ وهل بوسع الهوياتي الخروج من ذهنيات الانظلام وعقلية التنظيم السري - وإصغاء الطرفين لانشداد الناس للسلم والكفاية؟!
نحن محتاجون إلى رجال دولة عمالقة في الخبرة والصبر والتوليف بين المتناقضات وأخذ كل أمر على محمل الجدّ، وتجنُّب الدماء وهتك الحرمات، واعتبار السلطة وسيلة لصنع الخير العام. ومن لم يعلِّمه «رأس الذئب الطائر» فلن يتعلَّم أبداً!
أخي خالد، ليست المشكلة في الإقصاء المتبادل بين المثقفين؛ بل في الاقتناع «بشريعة السياسة» المستنيرة وفي الدولة قبل الدين!