مصر هبة النيل وميدان حياتها، وساح معاركها التي لا تغيب. دفق يحدوه أسرار تسكن في أعماق نهر النيل، وبذور تلد خرير الوجود الممتد مخترقاً الصحراء والزمن. السد العالي الذي كان حلماً تبنيه الآمال في العقل المصري منذ سنين، لم يغب عن الحاكم والمحكوم في التاريخ المصري. صار ذلك المشروع توأماً لنهر النيل في مصبّه المصري، وتداخل مع اهتزازات الإبداع والنغم والوجدان الوطني. لقد أَسطرَ النيل ذاتَه قبل أن يحوّله المبدعون منذ الفراعنة حتى الآن إلى الدفق المقدس. هو الثدي الذي يُرضع كل المصريين على مدى الدهر، ويطعمهم بلا منة، هو الأم والأب. لقد تغزل فيه الشعراء عشقاً، رفعوا له الرؤوس إجلالاً كما يخاطبون الأب، وتسابقوا على تقريض جمائله على أولاده على امتداد الوادي. لقد خلَّد النيلُ الشعراءَ الذين تغنوْا به أكثر ممَّا هم خلدوه. رائعة أحمد شوقي الطويلة، قصيدة «النيل»، هي معلقة الماء والحياة والتاريخ والتقديس لساحر الوجود على صدر الضمير المصري. ساءل أحمد شوقي النيل عن مصدره وتكوينه وقوته السحرية، تم تدفق أمير الشعراء تماهياً مع أمير الماء في قصيدة تندفع في قافية لها صلابة خاصة، وجرس يرنّ بالرهبة والعظمة، قافية - القاف. قال أمير الشعراء احمد شوقي وهو بين يدي النيل:
من أي عهدٍ في القرى تتدفقُ
وبأي كفٍ في المدائنِ تُغدقُ
ومن السماءِ نزلتَ أمْ فُجرتَ من
عليا الجنانِ جداولاً تترقرقُ
وبأي نولٍ أنتَ ناسجُ بردةٍ
للضفتينِ جديدُها لا يَخْلَقُ
تُسقي وتُطعمُ لا إناؤكَ ضائقُ
بالواردين ولا خِوانكَ يَنفَقُ
لو أنَّ مخلوقاً يُؤلَّهُ لم تكنْ
لسواك مرتبةُ الألوهةِ تُخلقُ
جعلوا الهوى لك والوقارَ عبادةً
إنَّ العبادةَ خشية وتعلقُ
وإليكَ بعد اللهِ يرجعُ تحته
ما جفَّ أو ما ماتَ أو ما يَنفَقُ
النيل، ليس كغيره من أنهار الدنيا، مياه تجرى في تراب حفرته بنعومة وقوة اندفاعها. النيل حياة تتجدد من دون توقف، وتاريخ يرتوي ويروي. ذاك ما حلَّق فيه الأمير بشعره في صوفية عشق ووله، قال:
جعلوا الهوى لك والوقار عبادة
إنَّ العبادة خشية وتعلقُ
العبادة ليست شركاً بالله، هنا خشية من هيبة هذا الكائن العظيم وتعلق به. الشعراء الكبار لا مناص لهم من العوم في ماء العظمة النيلية وكذلك المطربون.
الشاعر المبدع الكبير الذي يسبح في عبير الكلمات محمد حسن إسماعيل، هامَ بالنيل متيماً بجماله وسحره وعطره:
مسافرُ زاده الخيالُ
والسحرُ والعطرُ والظلالُ
ظمآن والكأسُ في يديهِ
والحبُ والفنُ والجمالُ
شابت على أرضه الليالي
وضيَّعت عمرها الجبالُ
ولم يزل ينشد الديارا
ويسأل الليلَ والنهارا
يا واهب الخلد للزمانِ
يا ساقي الحبِ والأغاني
هاتِ اسقني ودعني
أهيم كالطير في الجنانِ
يا ليتني موجةً فاحكي
إلى لياليك ما شجاني
المبدع محمود حسن إسماعيل ولج إلى كون نهر النيل من ركن آخر، من مسرب التدله والعشق، النيل هو من يهب الخلد للزمان وليس العكس. النيل هو المسافر دائماً عبر المكان والزمان. معه زاده الخاص، الخيال والسحر والفن والظلال. تلك هي الدنيا والحياة، ثم يقول له:
آه على سرّك الرهيبِ
وموجك التائه الغريبِ
يا نيلُ يا ساحرَ العيونِ
قصيدة شوقي غنتها كوكب الشرق أم كلثوم بألحان المعجزة الموسيقية رياض السنباطي، فنبتت دنيا أخرى في مياه النيل، ونهضت الأسطورة شعراً وموسيقى بصوت فيه سحر النيل الشامل، أما إبداع الشاعر محمود حسن إسماعيل فقد هام فيه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لحناً وغناء، فصار النيل بمائه وزمانه وجوداً بديعاً، أوبرا الماء الراقصة هياماً ببهائه الطاغي.
النيل لمصر ليس مجري شريان ماء يسقي ويطعم بله روح في ثنايا أرض الكنانة، ودفق حياة في شرايينها. كان السد العالي مشروع حياة مضافاً إلى لب الوجود الخالد في مصر. كان حلماً قاد تجسيده على الأرض إلى معركة بالسلاح والدم. عندما امتنع البنك الدولي تمويل المشروع قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس كي يكون دخلها مصدر مال يمول المشروع فكان العدوان الثلاثي. صار السد العالي هرم الحلم والدم وتغنى المصريون والعرب بمعركته التي أكملت الانتصار. كتب أحمد شفيق كامل، ولحن كمال الطويل، وغنى عبد الحليم حافظ، أغنية المعركة والإنجاز، «قلنا حنبني ودا احنا بنينا السد العالي
يا استعمار بنيناه بإيدينا السد العالي.. من أموالنا بإيد عمالنا.
وغنت أم كلثوم، قصة السد من كلمات عزيز أباظة وألحان رياض السنباطي:
كان حلماً فخاطراً فاحتمالا
ثم أضحى حقيقة لا خيالا
عمل من روائع العقل جئناه
بعلم ولم نجئه ارتجالا
بإنجاز السد العالي في عمق نهر النيل، تضاعف الوجود الأسطوري للنيل في الحياة المصرية. سرى النور من مولدات السد العالي إلى أرجاء مصر، ودخل النيل ضوءاً إلى كل بيت مصري.
اليوم تعيش مصر معركة أخرى، هي معركة النيل وسد آخر. سدٌّ سينتصب في إثيوبيا يضغط على شريان الحياة والحب والأسطورة النيلية المصرية، يجثو على أحمد شوقي ومحمود حسن إسماعيل وعلى أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وعزيز أباظة ورياض السنباطي. كانت معركة بناء السد العالي سلّماً لبناء النهضة المصرية، وتعبئة الروح الوطنية. يبدو أن سدود النيل مشحونة بالإنزيمات ذاتها. السد الإثيوبي الذي اُختير له اسم سد «النهضة»، حوله الإثيوبيون إلى قضية وطنية. رفعوا حوله الشعارات، وبعد الخلاف على مكوناته الفنية وزمن تعبئته، توالت التصريحات الساخنة من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الذي هدّد وتوعد وكذلك قادة جيشه. مثلما كان السد العالي في مصر ملحمة وطنية رفعت هامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، يبدو أن رئيس الوزراء الإثيوبي الشاب، يريد أن يجعل من سد النهضة مدرجاً يرفعه إلى سدة الزعامة الوطنية، بعد أن نجح في تحقيق السلم الاجتماعي، وفتح البلاد للاستثمار الأجنبي. صحيح أن سد النهضة سيحقق نقلة مهمة في عملية التنمية الإثيوبية، لكن التصعيد مع مصر بسبب تفاصيل فنية، يمكن تجاوزها بتفاهم لا يكلف إثيوبيا الكثير، وراءه دافع سياسي محض هو التعبئة الوطنية، من أجل أن يكون المشروع حزاماً مضافاً إلى الروابط التي أنجزها آبي أحمد في زمن قياسي داخل النسيج الاجتماعي الإثيوبي.
الشعارات التي ترافق التصعيد السياسي بين مصر والسودان من جهة، وإثيوبيا من جهة أخرى، هي النشيد الآخر الذي يسترجع صوت عبد الحليم حافظ، ولكن بلغة ونغم وهتاف إثيوبي. وتبقى معارك مصر مع السدود والنيل، طويلة مثل مسافة نهر النيل في المكان والزمان. مصر هبة النيل كما قال المؤرخ الإغريقي هيريدوت، ولا تكون إلا به، ومن حقها أن تقف الدنيا معها وهي التي أعطت للإنسانية دفق الفكر والإبداع والحياة.