وصاية «تويتر» على ترمب .. والعاقبة والعقاب

الجمعة 29 مايو 2020 1:56 م

ما أخطأتُ قديماً في فهم الغنوشي، بل أخطأتُ في تحليل تصريحاته وتصرفاته بعد عام 2016. أواخر الثمانينات أرسل إليّ خير الدين حسيب رئيس مركز دراسات الوحدة ببيروت يومها، مخطوطة راشد الغنوشي عن قواعد وأصول الديمقراطية الإسلامية أو الديمقراطية في الإسلام. والنص متواضع، وقد بقي عندي ستة أشهر وأنا أصحّح وأُراجع تفاصيل في القرآن والحديث والنقول عن كتب في مقاصد الشريعة، وكان الواضح أن الرجل ينقل من مراجع ثانوية لا من المصادر ذاتها. وعندما أعدتُ الكتاب مصحَّحاً لحسيب بعد لأي، وقرأ تقريري عنه، قال: الرجل معذور فهو في المنفى في لندن، وليس عنده مكتبة! قلت في التقرير فيما أذكر: الأطروحة متواضعة، فالديمقراطية في الإسلام لعباس العقاد أكثر إقناعاً منها. الرجل ليس قطبياً بالتأكيد ولا حتى مودودياً، هو يقع بين القرضاوي والترابي، وليست لديه قدرات فكرية تنظيرية، ولا علم عميق بالإسلام، لكن قيل لي ممن يعرفونه إنه سياسي براغماتي، وقد يكون له مستقبل! وقد تبين حذره الشديد بعد سنوات المنفى (رغم استمرار تأثيرات القرضاوي والترابي)، إذ لم يصر على وضع نفسه في مقدمة المشهد. وعندما سقط الإخوان في مصر عام 2013 يقال إنه ذهب إلى تركيا لاجتماع العالمية الإخوانية، وقدّم نقداً مريراً لإخوان مصر، وكيف أرادوا الاستيلاء على كل شيء مرة واحدة ففقدوا كل شيء خلال أقل من عامين! ولفت انتباهي بعد ذلك تصريحه في اجتماعٍ حزبي أنه يقول بالفصل بين الدعوي والسياسي في عمل حزب النهضة. وقد علّقْتُ معجباً راجياً أن يكون في ذلك ابتعادٌ عن مسارَي إخوان مصر والسودان! فقال لي صديقي مشاري الذايدي: هذا تسرع ستندَم عليه! وردَّ عليَّ أحد أنصاره من الذين كانوا بلبنان في سنوات المنفى: القواعد غاضبة من الشيخ لأن ذلك بمثابة فصل الدين عن الدولة، وهذا التصريح لإرضاء علمانيي تونس ولن يرضوا عنه ولو شق لهم صدره!

منذ أكثر من عام، وعندما بدأ حفتر حملته على طرابلس، قال لي سياسي ليبي توفي مؤخراً: لن يسمح الجزائريون والغنوشي والطليان والقرضاويون وإخوان السودان وآخرون بزوال حكومة الميليشيات في طرابلس، من أجل الغنائم، ومن أجل إزعاج مصر وأمنها. ثم عرفتُ قبل أشهر من رجل أعمال ليبي قدم إلى لبنان عبر تونس، أنّ إخوان مصر يتكاثرون بطرابلس، وبعضهم قادم من تركيا والبعض الآخر من السودان. ثم تبين أنهم كانوا طلائع إردوغان الذي جُنَّ جنونه لحرمانه من غاز المتوسط ونفطه، ومن نجاح مصر، ومن إصرار السعوديين والمصريين والإماراتيين على معارضة غزواته في الديار العربية، وقد عدّ الإيرانيين رواد التخريب ناجحين؛ فلماذا لا يتدخل هو في ليبيا ومثل إيران عن طريق المرتزقة. وقد تردد رئيس حكومة الوفاق في قبول مقاربات إردوغان أولاً ثم خشي انتصار حفتر على ميليشيات طرابلس، وأقنعه الغنوشي بجدوى ذلك ولو لإيقاف حفتر. وما اقتصر دور الغنوشي على ذلك، بل سهل التفاهم بين الجزائريين والأتراك أيضاً. وقد كنا نظن أن رئاسة عبد المجيد تبون بالجزائر ستغيِّر في السياسات تجاه المغرب وتجاه ليبيا، ثم تبيّن أن الجيش لا يزال هو المتحكم بالقرار، وأن العلاقة بتركيا وإيران أهون على قلوبهم من العلاقة بالعرب! ما دوافع الغنوشي الماهر والبراغماتي في حسباني؟ دوافع غير عقلانية وغير وطنية: الشعوبية الإخوانية والتبعية للقرضاويين، وسقوط حكم الإخوان في السودان، والخوف من النجاح المصري، والإعجاب بإردوغان والخوف من تراجع حظوظه في الوقت نفسه!
وضْع تونس مع ليبيا، مثل وضع لبنان مع سوريا. فمنذ قامت الثورة في سوريا عام 2011 خشي حزب الولي الفقيه أن يسارع شبان السنة في لبنان لدعم الثوار على الأسد، وفي الوقت نفسه خشي المسلمون والوطنيون من التوسط في النزاع وفي بلدهم انقسام عميق؛ ولذلك اجتمعوا جميعاً في بعبدا، مقر رئيس الجمهورية، ووقّعوا على بيان للنأي بالنفس عن الأوضاع السورية كلها. إنما ما مضت أسابيع حتى تبين أنّ الثوار السوريين ترجح كفتهم على ميليشيات الأسد، فتجاهل حزب الولي الفقيه توقيعه على بيان النأي بالنفس، وتدخل في سوريا إلى جانب الأسد بعشرات الألوف، وقد سقط منهم ومن الإيرانيين ألوف بالفعل، لكنهم قتلوا عشرات الألوف من الشعب السوري، وهجّروا ملايين! إنّ مصلحة تونس البلد العربي الذي له حدود طويلة مع ليبيا، والذي هو الشريك الثاني لتونس بعد الاتحاد الأوروبي، والذي استفاد المليارات من لجوء الليبيين إليه وسفرهم من طريقه - أن يكون على الحياد بالفعل في النزاع، وبسبب الفوائد والمصالح من جهة، ولأنه شقيق عربي لا يجوز الإسهام في تخريبه وتقسيمه. «حزب الله» إيراني ذهنية وتسليحاً، فهل تكون حركة النهضة إخوانية إردوغانية؟ بالطبع لا، لكنه ضلال الغنوشي، وأوهامه، ونفاد صبره في شيخوخته، بعد إذ لم يصبح زعيماً أوحد في بلده، ولا مرجعية بارزة في «العالمية» الإخوانية!
لا أزال لا أفهم كيف يمكن لعربي أن يسكت بل أن يدعم دخول جيوش وميليشيات أجنبية إلى بلدٍ عربي جار. وليس بسبب العصبية وحسب؛ بل بسبب المصلحة والتقدير للعواقب. ها هو بشار الأسد قد استقدم إلى بلدٍ هو رئيسه عدة جيوشٍ لحمايته من شعبه. فلا هو نجا ولا سَلِم بلده، وبدلاً من التفاوض مع الثائرين من شعبه صار عليه أن يتعامل مع الإيرانيين والروس والأميركان والأتراك وميليشيات العراق ولبنان وأكراد سوريا وتركيا والعراق. ويبلغ من سوء وضع الشبان السوريين في مملكة الأسد أنّ آلافاً منهم يعملون كميليشيا عند الرئيس، وآخرين يعملون مع الروس والإيرانيين، والآن هناك ألوفٌ منهم يعملون عند المخابرات التركية سواء في مناطقهم بسوريا أو بليبيا وحتى في الصومال! فالذين لم يهاجروا بعيداً من السوريين، ما عاد عندهم سبيلٌ لكسْب القوت غير الارتزاق لدى الجيوش والجهات التي تحتل بلادهم.
يثبت الآن، وللمرة العاشرة أو العشرين، أنّ حزبيي الإسلام السياسي ومن أجل السلطة والاغتنام وكسب النفوذ الموهوم هم مستعدون لاستحضار جيوش وميليشيات إلى بلدانهم وجوارهم العربي، دون أن يحول بينهم وبين ذلك شرفٌ أو دين أو تقدير للعواقب!

التعليقات